2472019raya2

 

جرت سنة الله عز وجل أن يبتلي العاملين لنصرة دينه ويمحصهم ليميز الصادقين من الكاذبين حتى تغدو الجماعة التي تستحق أن تنال شرف نصر الله نقية خالصة.

وقد قص علينا ربنا عز وجل في كتابه العزيز قصص الأنبياء وما عانوه من عنت أقوامهم وما تعرضوا له أثناء حملهم لدعوته من محن وابتلاءات عظيمة ليثبت بها الله عز وجل نبيه والمؤمنين من بعده.

وقد تعرض رسولنا وأسوتنا صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام لأشد الأذى وأعظم الابتلاء فما صرفهم عن دينهم ولا زعزع ثقتهم بوعد ربهم بل زادهم ذلك إيمانا ويقينا وثباتا على دينهم وعلى طريقتهم.

ففي "عام الحزن" يفقد رسولنا صلى الله عليه وسلم سنده الداخلي أم المؤمنين خديجة رضي الله عنها وسنده الخارجي عمه أبا طالب فيزداد أذى قريش له وينالون منه ما لم يكونوا يستطيعونه قبل ذلك وهو ثابت صابر محتسب يردد قولته المشهورة (لا أزال أجاهدهم على الذي ابتعثني الله به حتى يظهره الله أو تنفرد هذه السالفة).

ومن العذاب الذي وقع عليه صلى الله عليه وسلم ما رواه البخاري عن عروة قال: سألت عمرو بن العاص فقلت أخبرني بأشد شيء صنعه المشركون برسول الله صلى الله عليه وسلم قال: بينما النبي صلى الله عليه وسلم في حجر الكعبة إذ أقبل عليه عقبة بن أبي معيط، فوضع ثوبه على عنقه، فخنقه خنقاً شديداً، فأقبل أبو بكر رضي الله عنه حتى أخذ بمنكبيه ودفعه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول: "أَتَقتُلُونَ رَجُلاً أَن یَقُولَ رَبِّيَ ٱللَّهُ".

ولما أمره الله عز وجل بعرض نفسه على قبائل العرب وطلب النصرة منهم للإيمان به وإقامة دولة الإسلام، لأن هذا الدين لا بد له من دولة تطبقه وتجسده عمليا في واقع الحياة ليعيش الناس في ظل النظام الفريد الذي ارتضاه لهم رب العباد وليحملوه رسالة هدى ونور بالدعوة والجهاد للعالم أجمع، لاقى صلى الله عليه وسلم وأصحابه أشد أنواع الأذى وتعرضوا لمختلف أصناف الفتن ولكن ذلك لم يزدهم إلا إيمانا وثباتا ويقينا.

فلما خرج النبي صلى الله عليه وسلم من مكة إلى الطائف قاصدا بني ثقيف عسى أن يلقى عندهم النصرة بعد أن تحجر مجتمع مكة أمامه، لم يلق من أهل الطائف إلا أذى وتنكيلا فقد أغروا به صبيانهم وسفهاءهم فرموه بالحجارة حتى أدموا قدميه الشريفتين. فرجع صلى الله عليه وسلم صابرا محتسبا يناجي ربه عز وجل بقوله "...إن لم يكن بك غضب علي فلا أبالي، لك العتبى حتى ترضى ولا حول ولا قوة إلا بك".

في هذه الفترة الحرجة جداً من الدعوة، أنزل الله سبحانه وتعالى على نبيه صلى الله عليه وسلم ثلاث سور متتالية حملت أسماء أنبياء وهي هود ويونس ويوسف، ونحن نعلم يقيناً بأن القرآن ما نزل على قلب النبي صلى الله عليه وسلم إلا هادياً ومرشداً ومثبتاً ورابطاً على قلبه، وفي سورة هود قوله تعالى: ﴿فٱستَقِم كَمَاۤ أُمِرتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطغَوا إِنَّهُۥ بِمَا تَعمَلُونَ بَصِیر * وَلَا تَركَنُوۤا إِلَى ٱلَّذِینَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ ٱلنَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ ٱللَّهِ مِن أَولِیَاۤءَ ثُمَّ لَا تُنصَرُونَ﴾ [سورة هود: 112 - 113]َ

وقد ذكر أغلب المفسرين أنها ما شيّب النبي صلى الله عليه وسلم، فقد قال ابن عباس رضي الله عنه ما نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم آية هي أشد من قوله تعالى ﴿فٱستَقِم كَمَاۤ أُمِرتَ﴾.

فالاستقامة على أمر الله فكرة وطريقة هي محل الابتلاء وغاية التمحيص. وتحقيق الأهلية للنصر والتمكين وفق سنن الله عز وجل يكون بالثبات على الفكرة والاستقامة على الطريقة دون أن تحيد عنها قيد أنملة وكيف يمكنك أن تحيد عنها وهي حكم الله الذي أمرك بالتمسك به والاستقامة عليه، ولن تنال نصره وتمكينه ورضاه إلا بالعمل وفق ما أمرك به مستقيما على الطريقة الشرعية التي أمرنا عز وجل بالالتزام بها مهما كانت الصعوبات أو عظمت التضحيات أو كبرت الإغراءات.

فالرسول صلى الله عليه وسلم وهو أسوتنا هو خير من استقام كما أمره الله عز وجل، وقد جال على قبائل العرب، يتتبعها ويختار منها من يظنه أهلا للنصرة ويطلبها منهم، فقد طلب النصرة من بضع وعشرين قبيلة، وتعرض في سبيل ذلك للأذى الشديد، وكان رد القبائل متفاوتا ومختلفا، فمنهم من سلط عليه السفهاء والغلمان، ومنهم من حثى التراب عليه، ومنهم من رده ردا جميلا، ومنهم من فاوضه لينال نصيبا من الدنيا، فقد خاض صلى الله عليه وسلم أثناء طلب النصرة من القبائل مفاوضات شاقة وتعرض لفتن عدة وعُرضت عليه إغراءات متعددة. فقد عُرض عليه الملك والمال والنساء على أن يترك هذا الأمر فقال صلى الله عليه وسلم: "السماء أقرب إلى الأرض مما يدعونني إليه". كما عرض عليه أثناء المفاوضات أن يقدم تنازلات فرفض بشدة وهو أحوج ما يكون لمن ينصره، كذلك عرضت عليه نصرة منقوصة، فقال: "لن يقوم بهذا الأمر إلا من أحاطه من جميع جوانبه".

وفي معرض رد بعض القبائل على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يطلب النصرة منهم لإقامة الدولة الإسلامية الأولى نقرأ قولهم الذي يشبه ما نسمعه اليوم "أفنهدفُ نحورنا للعرب ثم يكون الأمر لغيرنا؟ لا حاجة لنا بك"!!

وقد رفض النبي صلى الله عليه وسلم أن يعطي القوى المستعدة للنصرة أي تنازلات بأن يكون لأشخاصهم شيء في الحكم أو السلطان على سبيل الأجر أو المكافأة لما يقومون به من نصرة أو تأييد للدولة الإسلامية. فقد أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم بأن السلطان للأمة وليس لأحد حق بأن يحتكره أو يتصرف به بعيداً عن إرادة الأمة، فالأمة هي التي تختار من يحكمها بشرع الله لا بغيره.

وكذلك تحذرنا الآيات في سورة هود من الطغيان ﴿وَلَا تَطغَوا إِنَّهُۥ بِمَا تَعمَلُونَ بَصِیر﴾ ذلك الطغيان الذي وقع فيه الكثير ممن أصبح له بعض من قوة فعمل على التسلط على الأمة وسلب سلطانها شأنه في ذلك شأن الأنظمة الجبرية، وأنشأ السجون السرية، وفرض المكوس والضرائب على الأمة، فهذا كله من الطغيان الذي حذر منه الله وحرمه، وليعلم هؤلاء بأن الله بما يعملون بصير، وأن ذلك مانع من النصر والتمكين كالزلل عن الطريق وعدم الاستقامة عليها والتنازل عن شرع الله وطريقته بدعوى المصلحة وما يشبهها.

كما وتحدثنا الآيات بأنه لا ينبغي أن نركن إلى الذين ظلموا، ففي ذلك المهلكة في الدنيا والآخرة، فالركون للظالمين فيه رهن لقرار الأمة ومصيرها ومصادرة لقرارها وسبيلٌ لأعدائها وبالتالي لن يكون النصر حليفنا، وهذا الدواهي التي حذرنا منها ربنا سبحانه قد وقع فيه أغلبنا، فانحرفت البوصلة وضاعت التضحيات الجسام التي قدمتها الأمة وتخلف النصر، ولا خلاص لنا ولا نصر إلا بالثبات على أمر ربنا والتمسك به والاستقامة كما أمرنا على طريقته قاطعين حبائل الداعمين المتآمرين معتصمين بحبل الله المتين وعندها يكرمنا الله عز وجل بالنصر والتمكين.

 

 

بقلم: الدكتور محمد الحوراني

 عضو لجنة الاتصالات المركزية لحزب التحرير في ولاية سوريا

جريدة الراية: https://bit.ly/2JLv8Bk