press

حملة لا لجريمة الحل السياسي نعم لإسقاط النظام وإقامة الخلافة

banner

فلسطين في زمن الثورات في البلاد العربية


يسلط هذا المقال الضوء على قضية فلسطين في سياق الثورات القائمة بعد التمهيد بلمحة تاريخية موجزة تلخّص وضع القضية، ومن ثم يصل إلى الموقف الحالي والعمل المطلوب.
أصل القضية
من المعلوم تاريخياً أن قضية فلسطين بدأت بتآمر بريطانيا منذ إصدارها وعد بلفور، وتشجيعها وتسهيلها لهجرة يهود إلى فلسطين، وذلك من أجل أن تحقق رؤيتها المتمثلة في دولة علمانية ديمقراطية في فلسطين للعرب واليهود، والتي كان يعبر عنها القذافي بطرفة «إسراطين». ثم دخلت أميركا على خط القضية منذ منتصف القرن الماضي، وأعلنت عن رؤيتها بعد اجتماع ممثليها الدبلوماسيين في الشرق الأوسط في إسطنبول عام 1950م بإيجاد دولة عربية وأخرى يهودية، وقررت أن تتفرد بمعالجة القضايا الساخنة، وبدأت أميركا تحث هيئة الأمم المتحدة على تنفيذ مشروع تقسيم فلسطين إلى دولتين، ومن ثم عمل عبد الناصر في مصر على تأسيس منظمة التحرير الفلسطينية لتحقيق هذا الغرض.
وظل حل الدولتين رؤية أميركية راسخة، وتوالت محاولات رؤساء أميركا لإخراجه، تحت وقع رفض المسلمين للاعتراف بكيان يهود، وفي أجواء صراع الإرادات بين أميركا وبريطانيا (إبّان قوة تأثير الأخيرة في الساحة الدولية)، إلى أن هيمنت أميركا على الموقف الدولي بعد حرب الخليج الثانية في ظل إدارة بوش الأب، وبالتالي هيمنت رؤيتها لحل القضية، ومن ثم تشكلت اللجنة الرباعية الدولية على أساس هذا الحل، وأعادت الفصائل الفلسطينية تشكيل أدبياتها على أساسه، ودخلت حركات المقاومة الإسلامية والعلمانية ضمن لعبة العلاقات الدولية المنضبطة بهذا الإيقاع الأميركي، وصار الحديث عن العملية السلمية وعن دولة فلسطينية في حدود 67 مجاورة لدولة (إسرائيل) أمراً طبيعياً في الإعلام العربي والفلسطيني وفي الخطاب «الوطني»، العلماني منه «والإسلامي».
الوضع الدولي الحالي
لم يكن لقضية فلسطين أن تحظى بأولوية في السياسة الأميركية في ظل الملفات الحرجة التي تتعاطى معها الإدارة الأميركية (الأزمة الاقتصادية العالمية، أفغانستان والعراق، تحرك أوروبا والصين وروسيا لمنافسة أميركا في قضايا مختلفة، ثورات العرب إلخ)، ومع ذلك ظلت أميركا تتفاعل معها في مظاهر حراك سياسي حول القضية في حدود مصلحتين، الأولى: كي تحافظ على الإمساك بأوراق اللعبة كاملة، فتقطع الطريق أمام أي قوة دولية أخرى بأن تنازعها في هذا التفرد بأوراق الحل، ولذلك ظل مؤتمر موسكو الذي حاولت روسيا عقده متعثراً، وقَبِل الاتحاد الأوروبي بالاقتصار على تمويل السلطة الفلسطينية، في انتظار التحرك الأميركي. والثانية: من أجل ترقيع الصورة المهشمة لأميركا في ذهنية الأمة الإسلامية، وتلك الصورة الهابطة، مضاف إليها مشاهد الدعم والتأييد الدائم من قبل أميركا لدولة الاحتلال اليهودي، تلك الصورة التي ظلت مصدر إلهام لتحرك الأمة الإسلامية نحو التغيير الجذري والتحرر من هيمنة أميركا. ولذلك أوصت العديد من الدراسات الاستراتيجية بالسعي لإنجاز حل الدولتين، لعل أميركا حينها تستعيد شيئاً من معاني الحضور المعنوي كقوة عادلة ومتوازنة بين طرفي الصراع حول فلسطين (كما جاء مثلاً ضمن دراسة زينو باران الصادرة عن مركز نيكسون في واشنطن عام 2004م تحت عنوان :Hizb ut Tahrir- Islam›s Political Insurgency)، ولذلك خاطب السفير الأميركي السابق في دولة الاحتلال اليهودي مارتن أنديك في تصريحات له كيان يهود بالقول، "إذا كنتم تحتاجون الولايات المتحدة، فإن عليكم في هذه الحالة أن تأخذوا المصالح الأميركية في الاعتبار". (نشرتها جريدة القدس بتاريخ 21/4/2010م)
وبالطبع لم يجد كيان يهود حاجة ملحة للتصالح مع أنظمة عربية منبطحة تماماً ولا يصدر عنها إلا مبادرات مفاوضات وتطبيع، وخصوصاً بعد أن تم احتواء فصائل المقاومة في سلطة تجد نفسها منشغلة في تأمين الخدمات للناس من خلال استجداء التمويل الغربي، مع الاستجابة لأجندات ذلك التمويل. واستمر تعنت دولة الاحتلال اليهودي وبشكل صلف، حتى ذهب وزير الخارجية المتغطرس ليبرمان بقوله إن السلام هو مجرد "وهم". وهكذا ظلت إدارة أوباما غير مستعدة للضغط الكافي على دولة الاحتلال اليهودي من أجل حسم الحل حتى الآن، فلجأت للموازنة بين التحديات التي تواجهها والمصالح الاستراتيجية التي تتطلع لتحقيقها، واختارت منهجية إدارة الأزمة في ظل تلك المعطيات، ولم تتقدم عملياً نحو الإنجاز تحت وقع ترتيب الأولويات.
الوضع الفلسطيني
بعد انشطار السلطة إلى سلطتين، وتورط حماس في «وحل» السلطة والتزاماتها، عاش الإعلام الفلسطيني حالة من الاستقطاب وصلت انعكاساتها إلى تفاصيل حياة الناس بما فيها ترتيبات فريضة الحج في خريف 2008م، وظن البعض أنه استقطاب على أساس حالة جهادية وأخرى تفاوضية، أو بين مشروع مقاومة ومشروع مساومة، بينما ظلت كلتا السلطتين في الواقع أسيرة الحلول الدولية، وتمحورت الرؤية لديهما على أساس مشروع حل الدولتين التي تنادي به أميركا. كما اختفت أعمال المقاومة في الضفة الغربية فيما اقتصرت على ردود الفعل في غزة وضمن سقف محدود للغاية.
ومع سيلان الدماء على أيدي الفصائل الفلسطينية، حصل شرخ فيما بينها وانكسر البلور الثوري، كما عبر بعض الإعلاميين الفلسطينيين، وتمخضت عن مرحلة الصراع الدموي بين فتح وحماس حالة من القمع الأمني لدى السلطتين، كانت بالطبع أشد وأقسى لدى سلطة فتح، حيث أشرف على تدريب أجهزتها الأمنية الجنرال الأميركي دايتون، الذي وقف خطيباً في واشنطن في 7/5/2009م يشرح مشروعه الأمني في فلسطين، ويبين دوره التنسيقيّ الناجح ما بين أجهزة الأمن، ويُرسّخ ترويض الجيل الفلسطيني الأمني الجديد بقوله «ما فعلناه هو بناء رجال جدد»، وهو يقتبس كلمات ضابط فلسطيني كبير يخاطب أفراد الأجهزة الجدد في حفل تخريج أمني: «لم تأتوا إلى هنا لتتعلموا كيف تقاتلون إسرائيل». ويعقّب دايتون بقوله «ويا له من تغيّر، وأنا لا أتباهى بهذا، فقد جعل هذا التغيّر ضبّاطاً في الجيش الإسرائيلي يسألونني في أغلب الأحيان: كم من هؤلاء الرجال الجدد تستطيع أن تصنع؟»
ومع نهاية العام 2008م، تصاعد الجدل بين الفصائل الوطنية في فلسطين حول قدسية منظمة التحرير الفلسطينية في سياق من يمثّل الشعب الفلسطيني: فبينما اقترح البعض إيجاد مرجعية بديلة عنها، أصرّ البعض الآخر على أن المنظمة هي الإطار الجامع للقضية الفلسطينية. واستمرت التجاذبات الفصائلية حولها في كل محاولة لتحريك ما سمي ملف المصالحة. كما استمرت الصراعات بين غزة والضفة الغربية حول «الحكومة الشرعية» ورئيسها، بل وطفت بين الحين والآخر صراعات داخلية في الضفة الغربية على كعكة حكومة رام الله.
وفيما استمرت «جعجعة» الحوار الوطني الفلسطيني دون طحن، تشكلت حكومة يهودية أوضح عداء وأكثر صداماً، بل وأعلن قادة الدولة اليهودية بشكل استفزازي عن خطط لضرب إيران لمنعهم من امتلاك القوة النووية، وظلت أحلام أو أوهام القيادات الفلسطينية تصطدم بإجراءات عدائية من قبل الاحتلال الذي لم يقم وزناً حتى لتلك القيادات التي سارت معه لتحقيق مصالحه الأمنية.
وظلت حكومة سلام فياض مستمرة في تنفيذ رؤيتها لإقامة مشروع الدولة الفلسطينية التي لا تتجاوز بحال مشروع بلدية كبيرة الحجم لتقديم الخدمات، وانشغلت في محاولات «البناء المؤسسي» الذي استشرى فيه الفساد، وفي تنظيم الجباية الضرائبية لتحقيق الديمومة المالية مع توقع تراجع فرص التمويل مستقبلاً، وذلك بموازاة تطوير وتمكين الأجهزة الأمنية من أداء دورها. وانشغلت ساحة الضفة الغربية بأعمال إعلامية سطحية من مثل انطلاق الاحتفال بالقدس عاصمة الثقافة وذلك في آذار 2009م، مع ما تضمن من نشاطات تطبيعية، ومن ثم باشرت السلطة ومن يدور في فلكها من الفصائل والشخصيات السياسية والعامة مجموعة من النشاطات التي استهدفت التأثير على وعي الناس ومخزونها الثقافي وقناعاتها، من مثل مسابقات ملكة جمال فلسطين ومباريات كرة القدم النسائية.
وقد حظي فياض (ومشروعه المتمثل في دولة البلدية الكبيرة) بدعم إعلامي عالمي حيث رصدته مجلة التايمز الأميركية من ضمن الشخصيات الأكثر تأثيراً في العالم، كما نشرت صحيفة الحياة يوم 1/5/2010م. ونقلت المجلة الأميركية عن توني بلير قوله إن فياض «عمل خلال السنوات الثلاث الـماضية على تقوية الـمؤسسات الحكومية الفلسطينية وأجهزة الأمن، على رغم الصعاب والـمعوقات السياسية، الأمر الذي لاقى الترحيب والتقدير في أوساط الرأي العام".
ثورات العرب وتغير الموازين
في ظل الأجواء التي تجلّى فيها انبطاح الفصائل الفلسطينية أمام مشروع حل الدولتين، ووقف أعمال المقاومة الفعلية، والتغوّل الأمني الذي كان أشد فظاعة لدى سلطة رام الله، وجمود المشهد السياسي مع انشغال أميركا وصلف قادة يهود وعجز الأنظمة العربية، ومع تكرر محاولات تمرير برنامج سياسي تفاوضي تحت مسمّى المصالحة، وتعثرّها أمام ملفات المنظمة والانتخابات والحكومة والملف الأمني.
في ظل هذه الأجواء فاجأت الأمة الجميع بثورات متعاقبة، فتغيرت تلك الأجواء التي كانت تطمح إلى مبادرة أميركية جديدة. فقد جمدت أميركا الأوضاع بخصوص هذه القضية عند الحالة التي آلت إليها، بانتظار ما يمكن أن تسفر عنه الأحداث في المنطقة ككل. كما وجدت الفصائل الفلسطينية نفسها أمام وقائع جديدة، فحركة فتح وسلطتها في رام الله فقدت أحد دعاماتها بعد سقوط نظام مبارك ورحيل عمرو سليمان عن مسرح القضية. أما حركة حماس، فهي من جهة تحس بنشوة إثر تمخّض الانتخابات في كل من تونس ومصر عن فوز لحركات في «عمقها التنظيمي»، شمل حركة النهضة في تونس وحزب الحرية والعدالة الذي أسسه الإخوان في مصر، ولكنّ حماس من جهة أخرى تعاني من أزمة إلى حد ما أمام موقفها المضطرب والمهزوز من الثورة السورية.
ويبدو أن هذه الأجواء قد دفعت الأطراف الفصائلية المختلفة إلى التغاضي عما تسببت به من آلام ومحن لهذا الشعب وهذه القضية، فبادرت إلى لملمة الأوضاع ولم شمل الأطراف في إطار منظمة التحرير، سيما أن المشروع السياسي الاستراتيجي لهذه الجماعات لا يتجاوز سقف المشروع الأميركي بإقامة دولتين لشعبين على أرض فلسطين. ولذلك طفا الحديث عن انضواء مختلف التيارات بما فيها حماس والجهاد في إطار المنظمة لإعادة بث الروح في جسد المنظمة الميتة. وبعد عام على الثورات بات الموقف السياسي فيما يتعلق بقضية فلسطين يتميز بالمعالم التالية:
على الصعيد الدولي: لا زالت أوراق قضية فلسطين مبعثرة على طاولة أميركا تغطّيها حزمة من الملفات الدولية العديدة، وقد تمخضت محاولات تحريك الملف من خلال المعركة الدينكيشوتية التي خاضها رئيس السلطة الفلسطينية في الأمم المتحدة عن سراب. وبالطبع فإن دخول أميركا هذا العام في حالة البطة العرجاء في أجواء الانتخابات سيؤكد جمود المشهد الفلسطيني على حاله بلا تغيّر ملموس على الساحة الدولية، وخصوصاً أن كافة الملفات الحرجة التي تقض مضجع أميركا لا زالت مفتوحة. وليس متوقعاً أن تنجح أوروبا في استعادة بعض أوراق القضية، وخصوصا أن أوراق الربيع العربي أكثر إلحاحاً، وهي ساحة أهم للصراع الأميركي-الأوروبي على المصالح.
على الصعيد العربي والإقليمي: لم تتمخض الثورات حتى الساعة عن تغيير جوهري في المعادلة، وفي العلاقة مع الاحتلال من قبل دول الطوق، بل تم التأكيد على جميع الاتفاقيات المخجلة مع هذا الكيان الغاصب. ولا يغير من هذا كثيراً اقتحام سفارة يهود في القاهرة و الاحتجاجات أمام سفارتهم في عمان وتفجير أنابيب الغاز المصرية لـ(إسرائيل). كما استمر الصمت على جرائم الاحتلال من قبل المجلس العسكري المصري. وتحرك ملك الأردن مجددًا لبث الروح في العملية التفاوضية فجمع الأطراف الفلسطينية و(الإسرائيلية) مع ممثل الرباعية في عمان، في مشهد أجوف لا طائل منه.
المفارقة المفجعة تمثلت في موقف الحركات الإسلامية التي قبلت نهج مغازلة الغرب وطمأنته على مصالحه والإقرار بهذا الكيان المسخ (على نحو أو آخر) وباحترام الاتفاقيات الموقعة معه. فلم تستثمر هذه الحركات ثورات الأمة وفوزها بالانتخابات من أجل إعادة صياغة العلاقة مع اليهود على أساس أنها حالة حرب مع محتل ترفض الأمة وجوده، ولا تعترف الأمة بقضية متعلقة بحدوده، بل تكررت التطمينات من رموز الحركات الإسلامية في مصر حول التزام اتفاقية كامب دافيد، مما أضفى نوعاً من الطمأنينة لدى قادة الاحتلال اليهودي حول المستقبل المنظور للنظام السياسي الجديد في مصر. أما سوريا فتبقى المفصل الساخن الذي قد يقلب الطاولة، وأفصحت قيادات يهود عن تخوفاتها في سوريا كما جاء على لسان إيهود باراك، مما يفضح بالطبع منطق الممانعة في سوريا.
على صعيد الفصائل الفلسطينية: بدل أن تشعل ثورات العرب الأعمال الجهادية، وبدل أن تدعو قادة الفصائل الثائرين أن يُحمّلوا الأنظمة المتمخضة عن الثورة مسئولياتها لتحرير فلسطين، تمخضت المقاومة عند فتح وحماس وغيرها من الفصائل عن المقاومة الشعبية السلمية، التي تصاعد الحديث عنها بعد لقاء عباس-مشعل الأخير في القاهرة. وظلّت الفصائل الفلسطينية تنتهج أسلوب طبخ الحجارة في قدر ماء، لا يسمن ولا يغني من جوع، وهي تحرّك مشاهد سخيفة تحت نفس العنوان «المصالحة»، وتشغل الناس بملفات ترتيب الشأن الداخلي من انتخابات وحكومة ومنظمة دون جديد على الساحة الدولية، ودون وعي على ما آلت إليه أجواء الأمة بعد الثورة.
وهكذا تبقى قضية فلسطين -فصائلياً- محشورة ضمن أنفاق الحوار الفلسطيني، وضمن ملفات القاهرة السابقة من تشكيل لجان وحديث عن «المنظمة» و»الحكومة» و»الأجهزة الأمنية» «والانتخابات». وتبقى أزمة تشكيل حكومة جديدة قائمة في ظل استمرار التجاذبات وتضارب المصالح الشخصية والحزبية، وفي ظل عقلية المحاصصة وعقلية «قبض أثمان» النضال، واسترداد فواتير الشهداء الذين سقطوا وهم يقاومون الاحتلال اليهودي.
أخيراً فإنه يجدر القول بأنّ المطلوب من الجميع اليوم هو دعم الثورات التي تطيح بالأنظمة العربية (وهي التي وقفت تحمي كيان يهود طويلاً)، ومن ثم ربط قضية فلسطين بالأمة وبكيانها المرتقب على أنقاض الأنظمة، الذي سيحرر الجيوش من هيمنة الحكام لكي تتحرك لواجبها الجهادي فتقضي على الكيان اليهودي بقوة العسكر، لا أن تحاصره بألاعيب السياسة لاسترداد أقل من 18 بالمئة منه، ساعتها يكون العمل مجدياً وشرعياً ويثيب الله عليه، ولا يكون تجديفاً باطلاً في مراكب الدول الاستعمارية الكبرى.

 

الدكتور ماهر الجعبري