في ظل ما يحصل في سوريا من خضوع لإرادة أمريكا والنظام الدولي يشعر الناس باستلاب الإرادة وفقدان القرار والخوف على المصير. ولكي نفهم من يقرر في سوريا ولماذا فقدنا القرار لا بد لنا من استعراض مسيرة الثورة السورية منذ البدايات.

عندما استخدم النظام البائد الجيش والأمن ضد الناس لجأ الثائرون إلى تشكيل مجموعات تحمي المتظاهرين بأسلحة خفيفة وتطور الأمر إلى تشكيل فصائل ثورية أصبحت تغنم أسلحة النظام واستطاعت أن تحرر سبعين بالمائة من البلاد ورفعت رايات الجهاد ودعت إلى تحكيم الإسلام، بل تبنى بعضها مشروع الدستور المقدم من حزب التحرير، ما أرعب القوى الدولية وعلى رأسها أمريكا، فتدخلت لدعم النظام من تحت الطاولة ما جعل الناس يطلقون جمعة (أمريكا ألم يشبع حقدك من دمنا؟)، ما يدل على وعي الناس على عمالة النظام البائد لأمريكا ودعمها له، ما اضطر أمريكا أن تمعن في خداعها، فأوعزت لأدواتها من الأنظمة المجاورة كتركيا والسعودية والأردن وقطر والإمارات بالتدخل لاحتواء الثورة عبر مصادرة قرارها بواسطة الدعم بالمال السياسي القذر، وأنشأت لذلك غرفتي الموك والموم، وكان هدف هذا الدعم اختراق صفوف الثورة وسلب قرارها والتحكم بها وتوجيهها إلى معارك جانبية لاستنزافها، خصوصاً أن الدعم كان بأسلحة غير فعالة وغير قادرة على إيقاف القصف الجوي والصاروخي والمدفعي. وكانت الرواتب ضعيفة بل أصبحت وسيلة لإفساد القادة الذين وجدوها مصدر ثراء بطرق فساد كثيرة، ما كبل الثورة التي عانت من الفساد والاتكال على الدعم البارد بدل الغنائم الحارة بالمعارك مع النظام البائد التي كانت سبباً في الإثخان به وإضعافه وتحرير المناطق منه.

وبهذه الطريقة فقدت الثورة استقلالها وقرارها وخرجت لذلك مظاهرات تطالب بتصحيح المسار واستعادة القرار ولكن جوبهت بالمبررين والمطبلين كما هو عليه الحال الآن بحجة من أين يأكل الناس؟! وكأننا في ثورة جياع! وانشغلت الفصائل بالدعم والداعمين وتجميع الفصائل بالاندماج ولكن دون فائدة لأنهم أصبحوا مكبلين بأوامر الداعمين.

وقد كانت تبريرات قادة المنظومة الفصائلية دائما "أنهم سيأخذون المال ولكن لن ينفذوا أوامر الداعمين"، وهذا ما يقوله المبررون لسياسة التبعية والخضوع لتوجيهات أمريكا وأدواتها التي تتبعها الحكومة الجديدة في دمشق. ولكن هيهات هيهات، فقد أفقد الدعم قرار قادة المنظومة الفصائلية فنفذوا التعليمات وسلّموا المناطق ونفذوا بنود سوتشي وأستانة والتزموا خفض التصعيد، بل خاضوا معارك استنزاف للمجاهدين المخلصين الذين كانوا يعترضون على إغلاق الجبهات.

وقريب من هذا ما يحصل على يد الحكومة الجديدة اليوم حيث تتدخل لمنع المجاهدين من تحقيق الحسم في معارك متعددة كما حصل في معارك الساحل والسويداء، وما ذلك إلا تنفيذاً لأمر الداعمين، ما أوقع أهل الشام في مخاطر كبيرة كان من السهل تجاوزها والقضاء على المخاطر الكبيرة التي حصلت لو كان القرار ذاتيا.

نعم، لقد بدأ الانحراف منذ البدايات؛ فرهن القرار للدول المتآمرة وعلى رأسها أمريكا والخضوع لتوجيهات توماس باراك المبعوث الأمريكي إلى سوريا والذي بات يعرف بالمندوب السامي، لن يوصلنا إلا إلى الهاوية، ففاقد القرار في الثورة لن يكون صاحب قرار في السلطة، لأن من يدعمه هو من سيتحكم بقراره وما عليه إلا التنفيذ، لأنه قد دخل جحر ضب لن يستطيع الخروج منه إلا بقطع يد داعميه.

لقد أشغلت الإدارة الحالية في سوريا نفسها بالجانب الاقتصادي على حساب ثوابت الثورة فرحين بمشاركة النظام الدولي نظامه الاقتصادي الرأسمالي الذي يعدهم بناطحات السحاب وأنفاق المترو والمشاريع السياحية التي ستزيدهم تكبيلا ثم يزعمون أنهم سيخرجون منه إلى ظلال الإسلام! ولكن هيهات هيهات فالركون إلى الظالمين والكافرين خسران مبين في الدنيا قبل الآخرة وليس طريقا للحق وإقامة الدين.

ومن هنا كان لا بد من التحذير من التفريط بثوابت الثورة وتضحيات المجاهدين، وخاصة مع ضغط أمريكا على الإدارة الحالية لإقصاء الإسلام عن الحكم وتقريب فلول النظام البائد وإعادة كثير منهم إلى مراكز عملهم رغم ما يشكله ذلك من خطر عظيم، إضافة لمحاولات إقصاء الصادقين عن مراكز التأثير ودمجهم مع قوى لا تريد الإسلام لتزيد القيود والعوائق أمام تصحيح المسار.

والحذر اليوم من أخطر القرارات على الأمة الإسلامية ألا وهو تسويغ تعطيل الشريعة وإقامة الحكم بما أنزل الله بدعوى العجز والمصلحة والتدرج، ما أوجد انقلابا على كل الثوابت والشعارات التي رفعها أهل الشام في ثورتهم، لنرى التنازل عن قضية فلسطين وأن الشام لن تكون منطلقا لقتال يهود، وتسارع خطا التطبيع مع كيان يهود عبر اللقاءات السرية والعلنية والوعد بالسلام مع يهود والدخول في الاتفاقيات الإبراهيمية "عندما تسمح الظروف". كل هذا تكبيل للأمة عن القيام بما أوجبه الله عليها من إقامة شرعه وتحرير بلاد المسلمين، تنفيذا لأمر الداعمين وتخديرا بالرخاء الاقتصادي الذي بموجبه تباع مقدرات البلاد للمستثمرين والشركات الرأسمالية الجشعة.

وختاماً لا بد لمن يتصدر القيادة أن يكون مبدئياً يحمل مشروع الإسلام بشكل واضح ودستور كامل مستنبط من كتاب الله وسنة رسوله وما أرشدا إليه من إجماع الصحابة والقياس الشرعي المعتبر، بعيداً عن تأثير الدول وإملاءاتها التي تسخط الله وتخالف أمره، وهي منزلق خطير نحو هاوية التبعية والعمالة والهوان. قال تعالى: ﴿وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنصَرُونَ﴾.

----------
بقلم: الأستاذ محمد سعيد العبود