
شهدت سوريا، بعد فرار رأس بشار وتهاوي منظومته الأمنية والعسكرية في كانون الأول/ديسمبر 2024 تحولات سياسية متسارعة تُصنَّف ضمن خانة الأحداث المفاجئة التي لم تكن الإدارات العالمية مستعدة لها. وبرزت زيارة رئيس المرحلة الانتقالية، أحمد الشرع، إلى أمريكا ولقاؤه برئيسها ترامب، كمحطة مهمة لأبرز هذه التحولات، محفوفة بجدل عميق حول الثمن السياسي والمبدئي الذي قد تدفعه البلاد في سبيل الاعتراف الدولي والاستقرار المزعوم.
لقد سبقت هذه الزيارة، تحركات في الرياض والأمم المتحدة، لتكون زيارة أحمد الشرع لواشنطن تتويجاً لمسار خطير ينزلق بالبلاد إلى قاع التبعية الذي تفقد فيه السيادة وتسلب فيه الإرادة وذلك بسبب نهج الاعتماد على سراب السند الخارجي الخدّاع.
زيارات لم تمر دون لغط؛ قسم يراها خطوة لا بد منها في سبيل الخروج من العزلة، وآخرون يعتبرونها بداية سلسلة من التنازلات ستفرغ الثورة من مضمونها الأصيل.
وقد ظهر في المشهد أمور عدة وتفاصيل كثيرة ليس أهمها ما يتعلق بالبروتوكولات غير الرسمية، إلا أن الأهم يكمن في جدول الأعمال الذي فرضته الإدارة الأمريكية على القيادة السورية الجديدة:
قانون قيصر: العصا الأمريكية المعلّقة في صدارة الملفات، وكان وضع قانون قيصر لحماية المدنيين. ورغم أنّ المنطق السياسي السليم يقضي بإلغاء العقوبات فور سقوط نظام آل أسد الذي فُرضت العقوبات عليه، إلا أن ما حدث كان تعليقاً للقانون، وليس إلغاءً له. هذا التجميد المؤقت يُقرأ في التحليل السياسي على أنه بمثابة سيف ديموقليس؛ أداة تهديد جاهزة للضرب في حال قصّرت الحكومة الجديدة في تنفيذ التزاماتها.
إن هذا الإبقاء على الضغط الاقتصادي، بالتزامن مع الحديث عن رفع جزئي لتضييقات معيشية، يتسق مع عقلية تأديب الحاضنة الشعبية. وهذا الأمر الذي انتهجته الدول على مر سنوات الثورة كلها، حيث كانت الأهداف من جميع المخططات التي كانت تحمل عنوان الضغط على النظام ومعاقبته كانت تحمل جميعها هدفا واحداً؛ تهذيب سلوك الجماهير الثائرة وإبقاءها في حالة ضغط دائم تحول دون تفكيرها في مشروع سياسي أوسع أو التفرغ لرفع الرأس بمطالب سيادية.
إن إبقاء الناس في حلقة مفرغة من السعي وراء لقمة العيش يُعد استراتيجية غربية لتقويض أي طموح لبناء دولة ذات قرار مستقل.
التحالف الدولي: شرعنة للاحتلال أم ضرورة؟
المحور الأخطر في النقاش كان الضغط من أجل انضمام سوريا إلى التحالف الدولي لمحاربة الإرهاب الذي تقوده أمريكا، والذي يراه كثيرون من طلبة العلم ومن المجاهدين تحالفاً صليبياً أعلن الحرب على الإسلام تحت ذريعة محاربة تنظيم الدولة.
هذا التحالف، الذي يعود تاريخ تدخله في سوريا إلى عام 2014، يملك سجلاً حافلاً من المجازر التي استهدفت الحاضنة الشعبية الثائرة، بعيداً عن أهداف محاربة الإرهاب المعلنة. إن القبول بالانضمام إليه يعني عملياً إضفاء الشرعية على الوجود العسكري الأمريكي وقواعده ومناطق نفوذه على الأرض السورية.
لقد كان وجود القوات الأجنبية سابقاً وجوداً غير شرعي أو مؤقتاً مرتبطاً بمناطق قسد أو بقتال تنظيم الدولة. أما الآن، فإن التوقيع على اتفاقية التحالف يقونن هذا الوجود، ويجعل أي معارضة أو انتقاد له جريمة تستوجب الملاحقة القضائية بتهمة الإساءة للعلاقات الدولية!
هذا التنازل يُعد نقطة مفصلية تهدم مبدأ السيادة واستعادة القرار الذي قامت عليه الثورة، وتفتح الباب أمام التدخل المباشر في الشأن الأمني والعسكري السوري.
ملف التطبيع والصدام المبدئي:
الضغط على دمشق لإبرام اتفاقيات أمنية مع كيان يهود، على غرار الاتفاق الإبراهيمي، يضع الحكومة الجديدة في صدام مباشر مع الثوابت المبدئية لنسبة كبيرة من الحاضنة. فالقضية ليست مجرد ترسيم حدود أو الانسحاب من الجولان، بل هي الاعتراف بكيان غير شرعي على أرض فلسطين.
إن هذا المسعى الأمريكي يهدف إلى أمور عدة؛ أولها تثبيت فكرة مفادها أن الإسلام السياسي لا يصلح للحكم، تمهيداً لإنهائها أو استبدال شخصية أكثر براغماتية وقبولاً دولياً بها. وثانيها استهداف بعض التجمعات للمهاجرين والمجاهدين، وذلك بإجبار الحكومة الجديدة وجعلها مضطرة بالفعل للمضي في محاربة ما يسمى "التطرف" وفق التعريفات الغربية، حتى لو كان ذلك يعني محاربة تيارات كانت شريكة في إسقاط بشار، الأمر الذي قد يخلف اقتتالا بين أصدقاء الأمس بذريعة المحافظة على الدولة!
الانفجار الداخلي المنتظر:
إن هذا الخليط المتفجر من الضغط الاقتصادي (قيصر)، والتنازلات السيادية (التحالف)، والصدام المبدئي (التطبيع)، يثير مخاوف حقيقية من انفجار داخلي. فالمجاهدون، سواء السوريون أو المهاجرون، الذين قاتلوا من أجل إقامة دولة تحكم بما أنزل الله، يرفضون هذا المسار بشكل قطعي، ويرون في الانصياع للشروط الغربية خيانة للتضحيات.
هذا التململ يعرّض سوريا لخطر اقتتال داخلي كبير لا يخدم سوى السياسات الخارجية. ورغم أن الشارع السوري قد يمتنع حالياً عن الانفجار خوفاً من الوقوع في فوضى جديدة، فإن استمرار الضغط الاقتصادي بالتوازي مع التنازلات السيادية، يقلل من صبره وقدرته على الصمود.
الخلاصة: ما بعد البراغماتية:
لقد كشف اللقاء بين رئيس الإدارة الانتقالية أحمد الشرع وترامب أن الانتقال السياسي في سوريا لن يكون سهلاً أو مجانياً. إنه اختبار حقيقي للقيادة الجديدة بين البراغماتية المطلوبة للاعتراف الدولي والحفاظ على جوهر الثورة ومبادئها. وفي خضم هذا الصراع بين الإرادة الأمريكية التي تكيد وتدبر، والإرادة الشعبية التي تتضرع إلى الله، يبقى الترقب سيد الموقف.
في النهاية نقول إن المنطقة، وربما العالم، مقبل على زلزال؛ يقوم على اصطدام بين مبدأين؛ مبدأ رأسمالي عقليته استغلال الناس ونهب خيراتهم واستعبادهم، والمبدأ الإسلامي الذي يقوم على الرعاية بأحكام الشرع وحماية رعايا الدولة، صراع سيفضي في النهاية إلى تحقيق ما وعد الله عز وجل به المؤمنين، وما بشر به رسوله الكريم ﷺ لتكون تضحيات الأمس هي الأساس للنصر المنشود، بعيداً عن قواعد وشروط المهيمنين لأننا على يقين أن العاقبة للمتقين.
---------------
كتبه: الأستاذ عبدو الدلي (أبو المنذر)
عضو المكتب الإعلامي لحزب التحرير في ولاية سوريا