بدأت ثورة الشام سلمية، وبقيت سلمية حتى اضطر الناس إلى حمل السلاح دفاعا عن أنفسهم وأبنائهم وأعراضهم أمام جبروت ردة فعل بشار وكلابه على سلمية ثورتهم. ولعل كل الناس يعلمون كم عانى أهل الشام من الظلم منذ عقود سواء في عهد حافظ الأسد أو في عهد ابنه، أو حتى في عهد من قبلهما، فقد أذاقوا البلاد والعباد مرارة الذل و العبودية، ناهيك عن نشر كل رذيلة، ومثل هذا وأكثر يجري في بقية بلاد المسلمين، فهو عمل ممنهج ومدبر بليل من قبل الكفار المستعمرين الذين قد يختلفون على كل شيء، إلا أنهم يتفقون تماما على محاربة الإسلام والمسلمين، وعلى منع إقامة الخلافة التي تجمعهم وتحمي بيضتهم، ولذا نجد الكفار قد عملوا على سرقة وحرف مسار الثورات في بلاد المسلمين كلها بطرق خبيثة، ومغلفة بريش النعام، وعندما حاولوا ذلك مع ثورة الشام، وتدخل سفيرا أمريكا وبريطانيا لاحتواء تفاقم الثورة، ورفعها لشعارات لم تعتَد عليها ثورات المسلمين السابقة سواء في مصر أو ليبيا أو تونس، حيث كانت شعارات ثورة الشام وأسماء الجُمَع فيها توحي بمشروع إسلامي يقف وراء الثورة، يحتضنها ويزودها بالغذاء العقدي والفكري؛ لتبقى على صفائها ونقائها وسلميتها، لأن المفكر السياسي يعلم علم اليقين أن سلمية الثورة أقوى من عسكرتها حتى لو سالت دماء الكثيرين من المدنيين فيها، ولكن الكفر وعملاءه عملوا على التقتيل البشع، والاعتقالات المفضية للعسكرة الحتمية، فبدأ أفراد من الجيش بالانشقاق سواء بشكل منظم ومتعمد، أو بشكل عفوي، فحصلت العسكرة على حساب السلمية التي غالبًا ما يكون نجاحها مؤكداً وقصير الأجل، وذلك بسبب عدم قدرة النظام على الصمود أمام السلمية والعمل الفكري العقائدي السياسي الذي يفصل الحاكم عن قوته الطبيعة وهو الشعب والأمة. فكانت العسكرة، فقتل النظام ودمر كل ما استطاع.
ولما ضعف نظام بشار أمدته أميركا بحزب إيران وبعض البلطجية المنظمة من العراق، ولما فشلوا أوعزت لإيران فتدخلت بقوة الدولة، والمستشارين السياسيين، ومع ذلك فشلوا وتكبدوا الكثير من الخسائر المادية والقتلى من القيادات العسكرية، وعندما فشلت إيران جاء التدخل الروسي المحوسب والمبرمج بالاتفاق مع أمريكا حيث سبقه اجتماعات مكثفة بين وزيري خارجية الدولتين، وقد صرح كيري وزير الخارجية الأمريكي إبان ذلك أن محادثات جرت مدتها سبع عشرة ساعة مع لافروف وزير الخارجية الروسي. وها هو القصف الروسي يتعدى الشهور بحقد صليبي بشع، لا يفرق بين مدني ومقاتل، وكل ذلك لإخضاع الثوار وحاضنتهم الشعبية للدخول في مفاوضات جنيف3، وإرغامهم على التوقيع على ما تريده أمريكا. تأخر عقد المؤتمر، رغم كل الضغوط، وموافقة بعض قيادات الثوار الداخلية، والهيئات السياسية الخارجية على شروط راعي مؤتمر جنيف، إلا أن الأمر ازداد تعقيدًا، وما ذلك إلا بسبب الرفض الداخلي من الحاضنة الشعبية وقواعد الثوار المخلصين، فكل الناس يعلمون أن ما يقال في الخارج من القيادات لا يقال في الداخل، وأنه غير مقبول بل هو مرفوض رفضًا باتًا، ذلك أن الثورة منذ اندلاعها قد صرحت بشعاراتها المنبثقة من عقيدة أهل الشام من مثل: "ما لنا غيرك يا الله" و"هي لله، هي لله" وإلا لكان انحراف الثورة أمرًا سهلاً وميسورًا، وخصوصًا بعد التدخل الروسي، والقصف المكثف والبشع والقوي.
وخلال كتابة هذه السطور وردت تسريبات عن وزير خارجية أمريكا أن الأشهر الثلاثة القادمة ستكون حاسمة حيث أفاد: "إن القصف الروسي الأسوأ لم يأتِ بعد"، وتوعد أن إفشال مؤتمر جنيف سيكون له عواقب وخيمة، وأعلنت السعودية وبالتعاون مع الأردن عن استعداها للتدخل البري، وما كل ذلك إلا للقلق من استمرار الفشل وتعقيد الأمور مما يفضي إلى عسكرة المنطقة بأسرها وتفلت بعض عناصر جيوشها، ورفضهم للأوامر العسكرية من قياداتهم، ومثال ذلك حادثة مركز تدريب الموقر في الأردن وقتل الأمريكان، وكذلك حادثة رفض الطيار الصمادي الأردني زيارة يهود ولو بمهمة تدريبية، ناهيك عن الإحالة على التقاعد للكثير الكثير ممن حولهم بسبب إخلاصهم، هذا هو حال الأمة الإسلامية بكل أطيافها، ولذلك نرى الفشل يتلوه الفشل لكل مؤتمرات الكفر لإفشال الثورة وحرفها عن الهدف الأصيل ومطلب الحاضنة الشعبية بضرورة تحكيم الشريعة الإسلامية وإقامة الخلافة الراشدة على منهاج النبوة، واجتثاث الكفر من الشام، وهذا يفهم منه بطبيعة الحال توحيد بلاد المسلمين وطرد الكافر المستعمر من بلادهم.
مما تقدم نستخلص معنى التساؤل الآتي: في ثورة الشام هل القوة لروسيا و أمريكا أم للرأي العام..؟! وعليه نستخلص أن البطش لا يمكنه أن يجتث فكرة نمت وترعرعت وملكت على الناس نفوسهم وعقولهم، فالقوة العسكرية تصرع قوة مثلها، لكنها لا تصرع فكرة، لذا فالفكرة التي استندت إليها ثورة الشام هي تحكيم الإسلام وإقامة دولة الإسلام، وقد أصبحت مشروعًا ومطلبًا لقواعد الثوار والحاضنة الشعبية، وهي للعلم ليست فكرة نشأت إبان الثورة فقط، بل هي سابقة لها بعقود، حيث إن العاملين المخلصين من المسلمين لإيجاد هذه الفكرة في واقع الدولة و المجتمع لم يغادروا سوريا منذ أكثر من خمسة عقود، ورغم التعذيب الذي أفضى بكثير منهم إلى الشهادة في سجون الظالمين وتحت وطأة سياط جلاوزتهم، والذين حفظ بعضهم رقمه ونسي اسمه، لطول ما مكثوا في السجون بلا محاكمات لا عادلة ولا حتى ظالمة، ولذلك كانت هذه الأفكار كامنة ساكنة للقلوب تنتظر فرصة لتعبر عن نفسها، وحين بدأت ثورة الشام انطلق أهلها ملبين ومضحين بالغالي والنفيس، ومضحين كما ضحى أسلافهم من المسلمين الأولين، فضربوا أروع الأمثلة في التضحية و الفداء، ورفضوا حتى مجرد التفكير بالهجرة لدول الجوار، أو الهروب إلى أوروبا التي فتحت أبوابها مستغلة حاجة الكثيرين، وظلم ذوي القربى من أنظمة دول الجوار، وما زال الثوار رغم كل ما دفع من المال السياسي القذر وشراء لبعض القيادات الرخيصة، إلا أنهم صابرون وثابتون على مشروع الثورة ومطلبها ألا وهو تحكيم الإسلام والخلاص من النظام القائم، وإقامة دولة الخلافة الإسلامية على منهاج النبوة، لا دولة مدنية، ولا علمانية، ولا الرضا بما يسمى بدولة مدنية بمرجعية إسلامية.
وإننا لنرجو الله تعالى أن ينصر ثورة الشام بإقامة الخلافة الراشدة على منهاج النبوة، وذلك بعد الأخذ بالأسباب من الثبات على هذا المشروع، وبثه بين البقية الباقية من أبناء الأمة لينسجموا مع أمتهم، ومع أهل القوة فيهم، ولتكون هناك أرض خصبة ليَتَنَزَّلَ نصر الله تعالى.
كتبه لإذاعة المكتب الإعلامي المركزي لحزب التحرير
الأستاذ وليد حجازات - الأردن
30 ربيع الثاني 1437هـ
0916م