تتغيّر المعطيات السياسية والعسكرية في سوريا بصورةٍ متسارعة، فبينما خفتت تماماً الأصوات المنادية بإعلان الهدن واستئناف المفاوضات، ارتفعت بالمقابل وتيرة الأعمال العسكرية، وتمّ تدشين تحالفات قتالية جديدة، وأُعْلِنَ عن وجود تدخلات عسكرية خارجية لم تكن موجودة من قبل.
فبالنسبة لمفاوضات جنيف، لم يَعُدْ أحد يُعوّل عليها سوى جماعة الائتلاف والهيئة العليا للمفاوضات، الذين ما زالوا يعيشون في ظلال الأحداث، ولم يرتفعوا إلى مستواها، والذين لا عمل لهم سوى مناشدة أمريكا والمجتمع الدولي بالضغط على النظام لتطبيق القرارات الدولية، والراجح أنّ المفاوضات بين النظام وهذه المعارضة الذليلة لم يعد لها مكان في هذه الأيام، فقد صرّحالأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون الخميس الماضي بأنّ: "محادثات السلام السورية لن تكون مثمرة في ظل المناخ الحالي"، وأيّد تصريحات دي ميستورا التي أكّد فيها بأنّ الوقت لم ينضج بعد لعقد جولة مباحثات ثالثة، وقال بأنّنا: "لا نريد مباحثات لأجل المباحثات فقط"، وحتى على مستوى إدخال المواد الإنسانية إلى داريّا والمدن المحاصرة الأخرى فقد قام النظام بعرقلة إدخالها، وألقى عشرات البراميل المتفجرة على المناطق التي حاولت الأمم المتحدة إدخال المواد إليها، وتجاهلت القوى الدولية الكبرى - كعادتها - هذه الجرائم الجديدة ضد المحصورين من النساء والأطفال والعاجزين المدنيين التي يقترفها النظام المجرم ضدهم، ولا ذنب لهم سوى أنّهم ينتظرون قدوم تلك المساعدات إليهم منذ سنوات.
وهكذا فقد هيمنت لغة قعقعة السلاح على لغة محادثات السلام، وسادت التحركات العسكرية على المشهد السوري بشكل عام، ونشطت القوى الدولية والإقليمية في التحضير لجولات جديدة من المعارك على كل الجبهات، بدلاً من التحضير لجولات جديدة من المفاوضات.
فبالنسبة للتحالف الروسي الإيراني المعلن مع نظام الطاغية بشّار فقد عقد وزراء دفاع كل من إيران وروسيا وسوريا الخميس الماضي محادثات عسكرية في طهران لبحث ما أسموه تكثيف المواجهات مع (الجماعات الإرهابية) في سوريا، وكأنّهم أسّسوا لمجلس حرب موحّد، ولغرفة عمليات مشتركة، وقال وزير الدفاع الإيراني الجنرال حسين دهقان: "إنه عازم مع نظيريه الروسي والسوري على خوض معركة حاسمة ضد الجماعات الإرهابية"، وادّعى أنّ "هذا الهدف يمكن تحقيقه من خلال عرقلة أو منع هذه المجموعات من تلقي الدعم السياسي أو الأسلحة التي تسمح لها بشن عمليات على نطاق أوسع"، وأضاف في ختام المحادثات أن "مكافحة الإرهاب يجب أن تتم على أساس برنامج مشترك وأولويات محددة"، وقال بأنّ نتائج تلك المحادثات يجب أن تظهر في الأيام المقبلة.
وخرج بيان وزارة الدفاع الروسية لِيُركّز هو الآخر على تعزيز التعاون بين وزارات الدفاع في البلدان الثلاثة فيما يتعلق بالمعركة ضد ما أسماه "تنظيم الدولة الإسلامية وجبهة النصرة الإرهابية"، وقال وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف بأنّ "هناك الكثير من العمل الذي ما زال علينا القيام به لدعم النظام السوري".
فلغة التصعيد العسكري واضحة جداً في هذه التصريحات، وخاصّة ما صدر منها على لسان المسؤولين الإيرانيين المتحمّسين أكثر من غيرهم في دعم نظام الطاغية، والذين احتضنوا الاجتماع في طهران. وقد تُوّجت التهديدات العسكرية من قبل وزراء الدفاع الثلاثة الروسي والإيراني والسوري، باستحداث منصب جديد من قبل إيران لمحاربة الثورة في سوريا، وتمثّل بتعيين علي شمخاني - وهو رئيس مجلس الأمن القومي الإيراني - كمنسق أعلى للسياسات العسكرية في سوريا، واجتمع على الفور بُعيْد تعيينه في هذا المنصب بوزراء دفاع سوريا وروسيا، وبحث معهما التطورات الميدانية في سوريا و(الحرب على الإرهاب).
ومن أهم الأهداف العسكرية التي تسعى روسيا وإيران لتحقيقها من خلال التنسيق الذي تمّ بينهما في طهران مع وزير دفاع المجرم بشّار الأسد هي تأمين المناطق الشمالية من سوريا وإبعاد خطر هجمات الثوار على المعقل الرئيس للنظام في اللاذقية ومحيطها، بما يشمل مناطق حلب وحمص وحماة.
وأمّا من جهة أمريكا، التي تنظم عمل تلك الدول في سوريا، فإنّها ركّزت في أعمالها العسكرية على دعم ما يُسمّى بقوات سوريا الديمقراطية التي يغلب على مُكوّناتها وحدات حماية الشعب الكردية، وأمريكا لا تُخفي علاقتها بها تكويناً وتدريباً وتمويلاً وتوجيهاً، وقامت طائراتها بمئات الغارات الجوية ضد تنظيم الدولة في مناطق الرقة ومنبج وريف حلب الشرقي، وساهم مستشاروها وعسكريوها على الأرض في تدريب وتوجيه مقاتلي تلك القوات التي حقّقت نجاحات محسوسة على الأرض، فأمريكا يبدو أنّها قد أصبحت تُعوّل عليها أكثر من غيرها، وكأنّها قد وجدت ضالتها فيها، وتقول الأنباء إنّ قوات سوريا الديمقراطية تُواصل تقدمها فى ريف منبج، على حساب تنظيم الدولة، وباتت تفرض سيطرتها على المزيد من القرى حول مدينة منبج، والتي بلغ عددها منذ بدء العمليات إلى نحو 100 قرية، ووصلت إلى مسافة 16كم غرب مدينة منبج، وأصبحت تُطوّق المدينة من كل جهاتها، وهي تهدف الآن للوصول إلى طريق الباب - الراعي الاستراتيجي، وبلدة قباسين في ريف حلب الشمالي الشرقي، ويُساعدها في تقدّمها الغارات المكثفة التي تشنّها الطائرات الأمريكية ضد مواقع التنظيم، وكانت في البداية تزحف باتجاه مدينة الرقة من ريفها الشمالي، ولكنّ أمريكا قامت بتحويل مسارها إلى منبج لضرورات عسكرية.
وساعد دخول (قوات سوريا الديمقراطية) إلى منبج في فك الحصار عن مدينة مارع ومنع سقوطها بأيدي تنظيم الدولة، وحال بالتالي دون سقوط مدينة إعزاز والتي تُعتبر المعقل الأخير لفصائل المعارضة شمال حلب والتي تتصل ببوابة السلامة الحدودية وهي المعبر الوحيد لدعمهم اللوجستي من جهة تركيا.
وكان عبور تلك القوات ضفة نهر الفرات من الشرق للغرب يُعتبر في السابق خطاً أحمرَ بالنسبة لتركيا لا يجوز تجاوزه بحال، لكن تركيا تجاهلت خطوطها الحمراء امتثالاً للرغبة الأمريكية.
وأمّا قوات نظام الطاغية بشّار فقد استفادت من تقدم (قوات سوريا الديمقراطية) في المنطقة وتمكنت بعد تثبيت سيطرتها على مفرق الطبقة - الرصافة - أثريا، من التقدم والتوسع نحو الشرق باتجاه منطقة الرصافة، ونحو الجنوب باتجاه مطار الطبقة العسكري.
ودخلت فرنسا هي الأخرى على الخط من باب حب الظهور، وإظهار نوع من التعاون مع أمريكا في سوريا، فذكر مصدر مقرب من وزير الدفاع الفرنسي "أن جنوداً فرنسيين يقدمون المشورة في سوريالقوات سوريا الديمقراطية الكردية العربيةالتي تحارب تنظيم الدولة الإسلامية"، وصرح هذا المصدر أن هجوم منبج كان مدعوما بشكل واضح من بعض الدول بينها فرنسا، وكان وزير الدفاع الفرنسي جان ايف لودريان ألمح من قبل إلى وجود جنود فرنسيين مع جنود أمريكيين إلى جانب قوات سوريا الديمقراطية في الهجوم في منبج بمحافظة حلب.
إنّ هذه التطورات العسكرية تُشير إلى رغبة أمريكا في إدخال لاعبين جُدد على الساحة السورية، وذلك من أجل خلط المزيد من الأوراق، بُغية إضعاف موقف الثوار، وحمل المفاوضين في جنيف على تقديم تنازلات جديدة، وأهمها الاعتراف بدور النظام في أي حل سياسي مستقبلي يمكن التوصل إليه.
كتبه لجريدة الراية: أبو حمزة الخطواني، بتاريخ الأربعاء 15 حزيران\يونيو 2016م
المصدر: http://bit.ly/1OnX1Ov