لا شك ونحن ننظر إلى ما وصلت إليه ثورة الشام المباركة؛ وما يحصل في مدينة حلب من مجازر جماعية وخسارة بعض المناطق؛ لا يسعنا إلا أن نقف وقفة صادقة مع ذاتنا لنضع الأمور في نصابها ونسترجع زمام المبادرة من جديد.
لا بد أن ندرك بداية أن الأمة الإسلامية أمة حية لا تموت؛ وقد أناط الله بها حمل الإسلام إلى العالم كافة، فهي أمة تحمل رسالة محمد ﷺ، تمرض ولكن لا تموت؛ تنام ولكن لا بد من أن يأتي يوم وتنتفض من جديد، وهذه حالها على مر العصور.
لقد قدر الله سبحانه وتعالى عليها أن تواجه العالم أجمع لتنشر في ربوعه دين الله عز وجل رسالة رحمة للعالمين، وهذا ما جعل قوى الكفر قاطبة تجتمع عليها وتحاول القضاء عليها المرة تلو المرة؛ ولكن هيهات هيهات فأمة محمد ﷺ باقية ما بقي دين الله سبحانه وتعالى؛ ودين الله عز وجل حي لا يموت؛ ومحفوظ من خالق الكون والإنسان والحياة، قال تعالى: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾.
إن نظرة واحدة إلى مجريات الأمور ترينا بوضوح مكمن الخلل الذي لحق بثورة الشام المباركة؛ والذي أوصلها إلى ما وصلت إليه الآن من انتكاسٍ وضع مصيرها على المحك، فقد نجحت أمريكا في السيطرة على مجريات الأحداث عندما وثقت قيادات الفصائل في أعدائها بل بالغت في هذه الثقة؛ حتى أصبحت مطية مخططات الغرب تدور معها حيث دارت وهي تحسب أنها تحسن صنعا! ويتجلى نجاح أمريكا في أمور عدة أهمها:
أولا: تحويل الصراع عن عميلها طاغية الشام وجعل الأولوية لمحاربة ما أسمته (الإرهاب)؛ فعلى الصعيد الخارجي شكلت أمريكا التحالف الصليبي الدولي وجعلت من محاربة الثورة أولوية حتى عند من يدّعون صداقة الشعب السوري، ونستطيع أن نقول الكلام نفسه على الصعيد الداخلي؛ فقد جعلت محاربة ما أسمته (الإرهاب) أولوية عند قادة الفصائل وذلك نتيجة الممارسات الخاطئة لتنظيم الدولة من جهة وبضغط من الداعمين وبتوجيه إعلامي مركز من جهة أخرى، وليس أدل على ذلك من توجه قيادات الفصائل للمشاركة في درع الفرات وترك مدينة حلب وحيدة تواجه مصيرها أمام تجمع أعدائها!
ثانيا: إغراق الثورة بالمال السياسي القذر؛ وربط قيادات الفصائل بالداعمين؛ والذي نتج عنه ما نتج من مصادرة القرار وفقدان السيادة، فلم تعد قيادات الفصائل سيدة نفسها؛ ولم تعد تستطيع أن تتخذ قراراتها بعيدا عن ضغوطات الداعمين وتوجيهاتهم وشروطهم التي كبلت الفصائل وشلت حركتها؛ فأبعدتها عن المناطق الاستراتيجية التي حُددت كخطوط حمراء يحرم الاقتراب منها؛ وحصرت أعمالها في مناطق استنزفت طاقاتها وأوهنت قواها، كما حرص الداعمون على إبقاء الفصائل مشرذمة متنازعة تحمل رؤوسا متعددة أفرزت مناطق سيطرة لكل فصيل وأهدافا ومصالح مختلفة مما أدخلها في صراع مع بعضها فذهبت ريحها، وهذا ما حذر منه رب العزة سبحانه وتعالى في قوله ﴿... وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِين﴾.
ويعتبر فقدان الوعي السياسي من أهم العوامل التي أوقعت قادة الفصائل في فخاخ أعدائها؛ وجعلت منهم مطية لتحقيق مصالحهم؛ فأمريكا كما هو معلوم تقود الصراع من خلف ستار وتزج بعملائها وحلفائها بعد أن قسمت الأدوار بين الاحتواء والمساندة، فزجّت بإيران وحزبها في لبنان ومن ثم روسيا لإسناد عميلها طاغية الشام؛ كما زجت بتركيا و السعودية وغيرها لاحتواء قادات الفصائل، وهذا ما لم تدركه هذه القيادات؛ فارتمت في أحضان أعدائها الذين ادعوا صداقتها وسلمت رقبتها للذبح عند أية محاولة للتمرد على قراراتهم، أضف إلى ذلك عدم قدرة قيادات الفصائل التمييز بين المكتسبات؛ فوقعت ضحية أوهام المكتسبات الهشة التي لا تستطيع المحافظة عليها، وبالتالي أخذت تفقدها الواحدة تلو الأخرى عندما سارت على طريق الهدن والمصالحات التي نتج عنها إفراغ المناطق من أهلها وسيطرة نظام الطاغية عليها من جديد؛ مما جعل الخناق يضيق حتى انحصر في الشمال السوري آخر قلاع الثورة، أضف إلى ذلك الممارسات الخاطئة التي فصلت الفصائل عن حاضنتها الشعبية أو كادت، وهذا كله نتيجة غياب الوعي السياسي عند من تصدر الدفاع عن أهل الشام وأعراضهم.
إن هذه الحقائق الصارخة تدفعنا لإعادة النظر في مسار الثورة بشكل عام والعمل على تصحيحه قبل أن تفقد الثورة بوصلتها تماما وتضيع في أمواج بحر الفوضى المتلاطمة، وهذا يقتضي من كل مخلص تحمل مسؤولياته، فقطع يد الداعمين أصبح ضرورة ملحة بعد العبث الذي جرى بمصير الثورة والذي نراه ماثلا أمام العيان، وهذه الخطوة الأولى في الاتجاه الصحيح لأنها تعيد لقيادات الفصائل سيطرتها على قراراتها وسيادتها على ذاتها فتستطيع السير في الطريق القويم؛ وتستطيع بعدها أن تتوحد حول مشروع سياسي وقيادة سياسية واعية ومخلصة، ومن ثم تستطيع كسر الخطوط الحمر التي رسمها أعداء الثورة وأبعد الفصائل عنها؛ والتي تعتبر مناطق استراتيجية للأطراف كافة، فالوقت لم يفت ولا تزال الفرصة سانحة لقلب موازين اللعبة.
يجب أن يعلم الجميع أن سقوط حلب، لا سمح الله، لا يعني انتهاء الثورة وإن كان ضربة قوية لها فالله سبحانه وتعالى يقول: ﴿... وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ فعسى أن توقظ هذه الهزة النيام من غفلتهم وإننا نرى علامات هذا الاستيقاظ من خلال توحد الفصائل في جيش واحد داخل حلب؛ ومن خلال خروج المظاهرات ضد القيادات التي باعت دماء مئات الآلاف من الشهداء وتضحيات الملايين من أهل الشام؛ ومن خلال الأعمال الجماعية هنا وهناك، فهذا كله دليل على أن الأمة لا تزال حية وأنها ستستعيد عافيتها من جديد بإذن الله وما ذلك على الله بعزيز.
كتبه لجريدة الراية: أحمد عبدالوهاب/ رئيس المكتب الإعلامي لحزب التحرير - ولاية سوريا، بتاريخ الأربعاء 8 كانون الأول/ديسمبر 2016م
المصدر: http://bit.ly/2g8bjlD