منذ ظهور الوهن في جسد الأمة في المرحلة الأخيرة من الخلافة العثمانية وما تلاها حتى يومنا هذا، يعيش المسلمون في صراع داخلي شديد بين هويتهم الإسلامية وتأثرهم بالحضارة الغربية، فتجد المسافر إلى الغرب ينبهر بالمنتجات المدنية والنظام الرتيب مما يجعله معجباً و منقاداً للغرب، في الوقت الذي يتناقض المبدأ الرأسمالي مع العقيدة الإسلامية بشكل صارخ، ومع الأسف ارتد قلة من المسلمين عن دينهم بالكامل لصالح الإلحاد، في حين بقي الكثير مسلمين بعواطفهم، في الوقت الذي كانت عقولهم منقادة نحو المبدأ الرأسمالي، وبالتالي نادوا بتجديد الإسلام انطلاقاً من أن الأحكام الإسلامية لا يمكن تطبيقها في هذا الزمن ويجب القبول ببدائل غربية، أو أن هناك نقاطاً مشتركة بين المبدأين وانطلاقاً منها يمكن انتاج إسلام رأسمالي متماشي مع العصر الحديث، ومن ثم أطلقوا شعارات جميلة على هذه الأفكار: كالوسطية والاعتدال والتجديد، و بحسن نيّة غالبية من يحمل هذه الأفكار، وانطلاقاً من حبهم للإسلام، أصبح شغلهم الشاغل الدفاع عنه في عيون الغرب، بعد أن قبلوا وضعه في قفص الإتهام، وأن يكون المبدأ الرأسمالي الوضعي حكماً على شرع رب العالمين. يقول العالم الموسوعي ابن خلدون رحمه الله في مقدمته الشهيرة: ".....في أن المغلوب مولع أبداً بالاقتداء بالغالب في شعاره، وزيه، و نحلته، و سائر أحواله و عوائده، و السبب في ذلك: أن النفس أبداً تعتقد الكمال في من غلبها و انقادت إليه. إما لنظره بالكمال بما وقر عندها من تعظيمه، أولما تغالط به من أن انقيادها ليس لغلب طبيعي، إنما هو لكمال الغالب، فإذا غالطت بذلك و اتصل لها، حصل اعتقاداً، فانتحلت جميع مذاهب الغالب، و تشبهت به، و ذلك هو الاقتداء. أو لما تراه و الله أعلم من أن غلب الغالب لها ليس بعصبية و لا قوة بأس، و إنما هو بما انتحلته من العوائد و المذاهب، تغالط أيضاً بذلك عن الغلب، و هذا راجع للأول، و لذلك ترى المغلوب يتشبه أبداً بالغالب في ملبسه و مركبه و سلاحه في اتخاذها و أشكالها، بل و في سائر أحواله...." مقدمة ابن خلدون، الجزء الأول، الفصل الثالث والعشرون.
نعم إن ما قاله ابن خلدون رحمه الله قبل 600 عام ينطبق على حالنا اليوم مع الغرب، فيرى المنبهرون بالغرب صحة مبدأه فيسعون للتشبه به، لكنهم يصطدمون بنصوص الشريعة، فتراهم يعملون جاهدين على إيجاد تفسيرات جديدة أو ليّ عنق النصوص لتوافق آراءهم، وقد روى الشيخان عن أبي سعيد الخدري رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة حتى لو دخلوا جحر ضب خرب لدخلتموه)، ينطلق غالبية العلماء في شرحهم لهذا الحديث الشريف، من أضرار تشبه المسلمين بلباس الغرب و"الموضة" وهذا صحيح، لكن الأخطر والأشد فتكاً بالإسلام وأهله هو التشبه بعقيدة الغرب في فصل الدين عن الحياة.وصف العالم تقي الدين النبهاني رحمه الله أصحاب هذا التفكير بقوله: "المضبوعين بالحضارة الغربية"، وذلك كناية عن الأمثال الشعبية، فالمضبوع هو: الفريسة التي يستدرجها الضبع إلى خارج العمران وهي منقادة له معجبة به، ثم إذا حان الوقت المناسب إفترسها. نعم فقد أهمل هؤلاء مبدأهم الإسلامي القائم على شرع الله عز وجل، ونسوا أنه الوحيد الضامن لقيام نهضة حقيقية لكل البشر بمختلف أديانهم ومللهم، لأن الخالق العظيم الذي خلقهم وضع لهم نظاماُ دقيقاً قادراً على حل مشاكلهم بطريقة ترضي العقل وتملأ القلب طمأنينة، وأن الأنظمة الوضعية مهما علا إنتاجها المادي ستبقى ناقصة وعاجزة عن حل مشاكل البشر، ومن أراد الاستفاضة في أسباب وهن الأمة الإسلامية والمقارنة بين المبدأ الإسلامي والرأسمالي، فهناك الكثير من الكتب والأبحاث حول هذا الأمر لا يتسع المقام لمناقشتها، لكن المشكلة الأساسية اليوم هي انقياد جزء كبير من النخبة الفكرية والسياسية في العالم الإسلامي للغرب، وليس الحديث هنا عن الحكام العملاء وأذنابهم، بل عن العلماء وقادة التغيير وممثلي الثورات.
إذا نظرنا إلى حال الأمة اليوم خلال الثورات، نجد أن الغرب استطاع التحكم بالشعوب الغاضبة على ظلم الحكام، وإبدال عميل مكان آخر دون أن يتدخل عسكرياً، ذلك "وللأسف" لأن شطراً كبيراً من النخب الثورية والفكرية في العالم الإسلامي متأثرة بالغرب، وينطلقون في أعمالهم وتصريحاتهم مما يرضي الغرب أو على الأقل لا يغضبهم، ظناً منهم أنهم قادرين على تحييد الغرب والحصول على الدعم خلال مرحلة انهاض دولهم، فلا تجد بياناً صادراً عن هذه الأحزاب والفصائل المسلحة إلا وهدفه طمأنة الغرب بأن المسلمين ليسوا بصدد إقامة النظام الإسلامي، بل دولة مدنية "علمانية"، ديمقراطية، تعددية، تحافظ على الحريات، تعترف بالحدود المصطنعة، تعترف بالأمم المتحدة والمواثيق الدولية الغربية ..... الخ، مع أن الأساس الشرعي أن ننطلق مما يرضي الله عز وجل لا ما يرضي أعداءه، والأنظمة الغربية لا ينقصها المكر والدهاء السياسي، حتى تستخدم المسلمين بعضهم ضد بعض، لتحقيق أهدافها في إبقاء العالم الإسلامي تحت نير استعمار غير مباشر، فيتبعها بعض المسلمين ظناً منهم أن أمريكا وأوربا سيمسحون يوماً بالتدرج لإيصال الإسلام إلى سدة الحكم، وما هم إلا يتبعون الضبع إلى مغارته ليفترسهم..... .
قال تعالى: (وَلَن تَرْضَىٰ عَنكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَىٰ حَتَّىٰ تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ ۗ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَىٰ ۗ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُم بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ۙ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (120) سورة البقرة.
للمكتب الإعلامي لحزب التحرير - ولاية سوريا
مصعب الرشيد الحراكي