(سلسلة أجوبة الشيخ العالم عطاء بن خليل أبو الرشتة أمير حزب التحرير على أسئلة رواد صفحته على الفيسبوك)
جواب سؤال:
هل يجوز شرعاً إقامة حدٍ من حدود الله في الأرض من قِبَل مجموعات جهادية أو أفراد؟
إلى Noor Abulfilat
السؤال:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
هل يجوز شرعاً إقامة حدٍ من حدود الله في الأرض من قِبَل مجموعات جهادية أو أفراد في ظل "عدم وجود دولة الخلافة الإسلامية"، وبارك الله فيكم وأعانكم
الجواب:
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته
إن إقامة الحد تترتب على حكم القضاء بعد ثبوت البينة الشرعية، والقضاء هو الإخبار بالحكم على وجه الإلزام، وهذا الإلزام يعني وجود قوة تُلزم الخصوم بالحكم، وهذه القوة هي السلطان، أي الحاكم الذي يقيم شرع الله ويلزم المسلمين بهذه الأحكام، فلا تنفذ الحدود إلا من الحاكم الذي يقيم شرع الله. وأما الأدلة على ذلك فهي ما يلي:
1- أدلة مجملة ومنها:
يقول سبحانه: ﴿الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ... ﴾
ويقول سبحانه: ﴿وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾.
ويقول سبحانه ﴿وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً... ﴾.
وأخرج البخاري عن ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ»
وأخرج مسلم عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «خُذُوا عَنِّي، خُذُوا عَنِّي، قَدْ جَعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبِيلًا، الْبِكْرُ بِالْبِكْرِ جَلْدُ مِائَةٍ وَنَفْيُ سَنَةٍ، وَالثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ جَلْدُ مِائَةٍ، وَالرَّجْمُ»
وأخرج الترمذي في سننه عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ مُعَاوِيَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ شَرِبَ الخَمْرَ فَاجْلِدُوهُ...».
وهذه أدلة مجملة توجب إقامة الحدود والعقوبات (فاجلدوا، فاقطعوا، فاقتلوه، جلد مائة والرجم...)، فلم تبين من الذي يقيم العقوبة وكيف يقيمها. والأدلة المجملة كما في الأصول تحتاج إلى بيان، والتزامها يكون وفق بيان هذا المجمل. وقد بين الرسول صلى الله عليه وسلم في أحاديثه الشريفة هذا المجمل، وكذلك بينه إجماع الصحابة رضوان الله عليهم في عهد الخلفاء الراشدين بياناً واضحاً بأن العقوبات يقيمها الحاكم بكيفية واضحة مبينة في النصوص الشرعية، ومن هذه النصوص المبينة للنصوص المجملة:
أ- يقول سبحانه ﴿وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ﴾. وهذه الآية الكريمة، وآيات أخرى غيرها مستفيضة في هذا الموضوع، تبين أن الرسول صلى الله عليه وسلم هو المكلف بتنفيذ الأحكام، وخطاب الرسول صلى الله عليه وسلم في الحكم هو خطاب لكل حاكم يحكم بالإسلام يأتي بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وذلك بناءً على القاعدة الأصولية التي تنص على أن خطاب الرسول صلى الله عليه وسلم هو خطاب لأمته على وجهه، فإن كان في موضوع الحكم كان خطاباً للخلفاء من بعده صلى الله عليه وسلم ما لم يرد دليل التخصيص، وهو هنا غير وارد، وإذن فالذي ينفذ الأحكام هو الحاكم الذي يحكم بالإسلام.
ب- وهناك أحاديث للرسول صلى الله عليه وسلم تبين أن صاحب الذنب الذي يوجب الحد كان يؤتى به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليقيم الحد عليه:
أخرج مسلم عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أُتِيَ بِرَجُلٍ قَدْ شَرِبَ الْخَمْرَ، فَجَلَدَهُ بِجَرِيدَتَيْنِ نَحْوَ أَرْبَعِينَ»، قَالَ: وَفَعَلَهُ أَبُو بَكْرٍ، فَلَمَّا كَانَ عُمَرُ اسْتَشَارَ النَّاسَ، فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: أَخَفَّ الْحُدُودِ ثَمَانِينَ، «فَأَمَرَ بِهِ عُمَرُ»، والعمل على هذا عند أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم.
وأخرج البيهقي عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَزَيْدِ بْنِ خَالِدٍ أَنَّ "رَجُلًا ذَكَرَ أَنَّ ابْنَهُ زَنَا بِامْرَأَةِ رَجُلٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «لَأَقْضِيَنَّ بَيْنَكُمَا بِكِتَابِ اللَّهِ»، فَجَلَدَ ابْنَهُ مِائَةً وَغَرَّبَهُ عَامًا، وَأَمَرَ أُنَيْسًا أَنْ يَغْدُوَ عَلَى امْرَأَةِ الْآخَرِ، فَإِنِ اعْتَرَفَتْ رَجَمَهَا، فَاعْتَرَفَتْ، فَرَجَمَهَا".
وأخرج البيهقي كذلك في السنن الصغير عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ، «أَنَّ رَجُلًا، زَنَا بِامْرَأَةٍ، فَلَمْ يُعْلَمْ بِإِحْصَانِهِ، فَجُلِدَ، ثُمَّ عُلِمَ بِإِحْصَانِهِ، فَرُجِمَ» وأخرج النسائي نحوه.
وأخرج أبو داود في سننه عَنْ صَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ، قَالَ: كُنْتُ نَائِمًا فِي الْمَسْجِدِ عَلَيَّ خَمِيصَةٌ لِي ثَمَنُ ثَلَاثِينَ دِرْهَمًا، فَجَاءَ رَجُلٌ فَاخْتَلَسَهَا مِنِّي، فَأُخِذَ الرَّجُلُ، فَأُتِيَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَأَمَرَ بِهِ لِيُقْطَعَ، قَالَ: فَأَتَيْتُهُ، فَقُلْتُ: أَتَقْطَعُهُ مِنْ أَجْلِ ثَلَاثِينَ دِرْهَمًا، أَنَا أَبِيعُهُ وَأُنْسِئُهُ ثَمَنَهَا؟ قَالَ: «فَهَلَّا كَانَ هَذَا قَبْلَ أَنْ تَأْتِيَنِي بِهِ» وفي رواية الدارقطني عن عمرو بن شعيب عن أبيه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اشْفَعُوا مَا لَمْ يَتَّصِلْ إِلَى الْوَالِي، فَإِذَا أُوصِلَ إِلَى الْوَالِي فَعَفَا فَلَا عَفَا اللَّهُ عَنْهُ»، ثُمَّ أَمَرَ بِقَطْعِهِ مِنَ الْمِفْصَلِ.
ج- وهناك حوادث في عهد الخلفاء الراشدين كان يؤتى بصاحب الذنب الذي يوجب الحد إلى الخليفة أو نوابه لإقامة الحد عليه، ومن هذه الحوادث:
أخرج أبو داود الطيالسي في مسنده عَنْ حُضَيْنِ أَبِي سَاسَانَ الرَّقَاشِيِّ، قَالَ: حَضَرْتُ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَأُتِيَ بِالْوَلِيدِ بْنِ عُقْبَةَ قَدْ شَرِبَ الْخَمْرَ وَشَهِدَ عَلَيْهِ حُمْرَانُ بْنُ أَبَانَ وَرَجُلٌ آخَرُ فَقَالَ عُثْمَانُ لِعَلِيٍّ: «أَقِمْ عَلَيْهِ الْحَدَّ...»
وأخرج أحمد في مسنده عن عَبْدِ اللهِ بْنِ قَيْسٍ "أبي موسى الأشعري" «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بَعَثَهُ عَلَى الْيَمَنِ، ثُمَّ أَتْبَعَهُ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ، فَلَمَّا قَدِمَ عَلَيْهِ قَالَ: انْزِلْ وَأَلْقَى لَهُ وِسَادَةً، فَإِذَا رَجُلٌ عِنْدَهُ مُوثَقٌ قَالَ: " مَا هَذَا؟ " قَالَ: كَانَ يَهُودِيًّا فَأَسْلَمَ، ثُمَّ رَاجَعَ دِينَهُ دِينَ السَّوْءِ فَتَهَوَّدَ. قَالَ: لَا أَجْلِسُ حَتَّى يُقْتَلَ قَضَاءُ اللهِ وَرَسُولِهِ ثَلَاثَ مِرَارٍ، فَأَمَرَ بِهِ فَقُتِلَ».
وقاتل أبو بكر المرتدين عندما أنكروا الزكاة، أخرج ابن حبان في صحيحه عن أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ لَمَّا تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَاسْتُخْلِفَ أَبُو بَكْرٍ رضي الله تعالى عَنْهُ وَكَفَرَ مَنْ كَفَرَ مِنَ الْعَرَبِ، قاتلهم أبو بكر وقَالَ: "وَاللَّهِ لَأُقَاتِلَنَّ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ فَإِنَّ الزَّكَاةَ حَقُّ الْمَالِ وَاللَّهِ لَوْ مَنَعُونِي عِقَالًا كَانُوا يُؤَدُّونَهُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَقَاتَلْتُهُمْ عَلَى مَنْعِهِ".
والخلاصة هي كما أن الخاص قاض على العام، والمقيد قاض على المطلق وفق قواعد الأصول، فإن المبين قاض على المجمل، فيكون الذي يقيم الحدود هو الحاكم الذي يحكم بالإسلام، أي الإمام، وهذا أمر ثابت وفق ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما سار عليه الخلفاء الراشدون رضي الله عنهم، كما بينا آنفاً... وهذا أمر مشهور طوال عهود الخلافة الإسلامية، وقد وردت أقوال لبعض العلماء المعتبرين في هذا الأمر:
- قول ابن تيمية "خاطب الله المؤمنين بالحدود والحقوق خطابا مطلقا كقوله والسارق والسارقة فاقطعوا... لكن قد علم أن المخاطب بالفعل لا بد أن يكون قادرا عليه والعاجزون لا يوجب عليهم... والقدرة هي السلطان فلهذا وجب إقامة الحدود على ذي السلطان ونوابه".
- قال الإمام علاء الدين الكاساني: "وأما شرائط جواز إقامتها يعني الحدود... فهو الإمامة".
- القرطبي يقول: "لا خلاف أن المخاطب بهذا الأمر - الحدود - الإمام ومن ينوب منابه".
- قال الإمام الشافعي: "لا يقيم الحد على الأحرار إلا الإمام ومن فوض إليه الإمام".
- قال ابن قدامة: "لا يجوز لأحد إقامة الحد إلا بالإمام أو نائبه".
3- وفي حالة عدم وجود السلطان الذي يحكم بشرع الله فإن الواجب على المسلمين هو العمل الجاد المجد لإيجاد السلطان الذي يحكم بالإسلام لأنه فرض للنصوص الكثيرة الواردة في ذلك من الكتاب والسنة وإجماع الصحابة:
أما الكتاب فقد قـال تعالى مخاطباً الرسـول عليه الصـلاة والسـلام: ﴿فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ﴾، وقوله: ﴿وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْك﴾، وخطاب الرسول صلى الله عليه وسلم بالحكم بينهم بما أنزل الله هو خطاب لأمته صلوات الله وسلامه عليه، ومفهومه أن يوجِدوا حاكماً بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم يحكم بينهم بما أنزل الله، والأمر في الخطاب يفيد الجزم؛ لأن موضوع الخطاب فرض، وهذا قرينة على الجزم كما في الأصول، والحاكم الذي يحكم بين المسلمين بما أنزل الله بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الخليفة. ونظام الحكم على هذا الوجه هو نظام الخـلافة. هذا فضلاً عن أن إقامة الحدود وسائر الأحكام واجبة، وهذه لا تقام إلا بالحاكم، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، أي أن إيجاد الحاكم الذي يقيم الشرع هو واجب. والحاكم على هذا الوجه هو الخليفة، ونظام الحكم هو نظام الخـلافة.
وأما السنة فقد رُوي عن نافع قال: قال لي عبد الله بن عمر: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من خلع يداً من طاعة لقي الله يوم القيامة لا حجة له، ومن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية» رواه مسلم. فالنبي صلى الله عليه وسلم فرض على كل مسلم أن تكون في عنقه بيعة، ووصف من يموت وليس في عنقه بيعة بأنه مات ميتة جاهلية. والبيعة لا تكون بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا للخليفة ليس غير. فالحديث يوجب وجود بيعة في عنق كل مسلم، أي وجود خليفة يستحق في عنق كل مسلم بيعة بوجوده. وروى مسلم عن الأعرج عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إنما الإمام جُنة يُقاتَل من ورائه ويُتقى به». وروى مسلم عن أبي حازم قال: قاعدت أبا هريرة خمس سنين، فسمعته يُحدّث عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء، كلما هلك نبي خلفه نبي، وإنه لا نبي بعدي، وستكون خلفاء فتكثر، قالوا فما تأمرنا؟ قال: فُوا ببيعة الأول فالأول، وأعطوهم حقهم، فإن الله سائلهم عما استرعاهم». فهذه الأحاديث فيها وصف للخليفة بأنه جُنة، أي وقاية. فوصف الرسول بأن الإمام جنة هو إخبار فيه مدح لوجود الإمام، فهو طلب؛ لأن الإخبار من الله ومن الرسول، إن كان يتضمن الذم فهو طلب ترك، أي نهي، وإن كان يتضمن المدح فهو طلب فعل، فإن كان الفعل المطلوب يترتب على فعله إقامة الحكم الشرعي، أو يترتب على تركه تضييعه، كان ذلك الطلب جازماً. وفي هذه الأحاديث أيضاً أن الذين يسوسون المسلمين هم الخلفاء، وهو يعني طلب إقامتهم. على أن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر بطاعة الخلفاء، وبقتال من ينازعهم في خلافتهم. وهذا يعني أمراً بإقامة خليفة، والمحافظة على خلافته بقتال كل من ينازعه. فقد روى مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ومن بايع إماماً فأعطاه صفقة يده، وثمره قلبه، فليطعه إن استطاع. فإن جاء آخر ينازعه، فاضربوا عنق الآخر». فالأمر بطاعة الإمام أمر بإقامته، والأمر بقتال من ينازعه قرينة على الجزم في دوام إيجاده خليفة واحداً.
وأما إجماع الصحابة فإنهم، رضوان الله عليهم، أجمعوا على لزوم إقامة خليفة لرسول الله صلى الله عليه وسلم بعد موته، وأجمعوا على إقامة خليفة لأبي بكر، ثم لعمر، ثم لعثمان، بعد وفاة كل منهم. وقد ظهر تأكيد إجماع الصحابة على إقامة خليفة من تأخيرهم دفن رسول الله صلى الله عليه وسلم عقب وفاته، واشتغالهم بنصب خليفة له، مع أن دفن الميت عقب وفاته فرض. والصحابة الذين يجب عليهم الاشتغال في تجهيز الرسول ودفنه اشتغل قسم منهم بنصب الخليفة عن الاشتغال بدفن الرسول، وسكت قسم منهم عن هذا الاشتغال، وشاركوا في تأخير الدفن ليلتين مع قدرتهم على الإنكار، وقدرتهم على الدفن، فقد توفي الرسول صلى الله عليه وسلم ضحى الاثنين، وبقي دون دفن ليلة الثلاثاء ونهار الثلاثاء حيث بويع أبو بكر رضي الله عنه ثم دفن الرسول صلى الله عليه وسلم وسط الليل، ليلة الأربعاء، أي تأخر الدفن ليلتين، وبويع أبو بكر قبل دفن الرسول صلى الله عليه وسلم. فكان ذلك إجماعاً على الاشتغال بنصب الخليفة عن دفن الميت، ولا يكون ذلك إلا إذا كان نصب الخليفة أوجب من دفن الميت. وأيضاً فإن الصحابة كلهم أجمعوا طوال أيام حياتهم على وجوب نصب الخليفة. ومع اختلافهم على الشخص الذي يُنتخب خليفة، فإنهم لم يختلفوا مطلقاً على إقامة خليفة، لا عند وفاة رسول الله، ولا عند وفاة أي خليفة من الخلفاء الراشدين. فكان إجماع الصحابة دليلاً صريحاً وقوياً على وجوب نصب الخليفة.
وهكذا فإن الواجب على المسلمين عند عدم وجود الحاكم الذي يحكم بالإسلام "الخليفة" أن يبذلوا الوسع في إيجاده، ووجود الخليفة فرض وأي فرض، فهو الذي يقيم الحدود الواجبة من رب العالمين، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، وبخاصة وأن إقامة الحدود فرض عظيم فيه صلاح الأمة واستقامة أمرها. أخرج ابن ماجه في سننه عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «حَدٌّ يُعْمَلُ بِهِ فِي الْأَرْضِ، خَيْرٌ لِأَهْلِ الْأَرْضِ مِنْ أَنْ يُمْطَرُوا أَرْبَعِينَ صَبَاحًا».
وفي الختام فإني ألفت نظر المسلمين في مناطق النزاع التي لا يوجد فيها حكم مستقر ولا دولة، ألفت نظرهم إلى وجوب حل المشاكل بين المسلمين صلحاً، فلا يتركوا هذه المشاكل تتفاقم بين الناس بل يحلوها صلحا فيقوم العلماء وأولو الألباب وأهل الحل والعقد في البلد بالإصلاح بين الناس لحل مشاكلهم، وسد حاجات الفقراء منهم، والوقوف مع المظلوم لأخذ حقه ممن ظلمه... وذلك للنصوص العامة في هذه الأمور، وفي الإصلاح بين الناس، وهذه النصوص غير مخصصة بوجود الحاكم، وكذلك للنصوص المطلقة في الإصلاح غير المقيدة بوجود الحاكم، ومن هذه النصوص:
﴿لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا﴾
﴿وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا﴾
﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾
﴿وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ﴾
وأخرج أحمد في مسنده عَنْ أم الدرداء عن أَبِي الدَّرْدَاءِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِأَفْضَلَ مِنْ دَرَجَةِ الصَّلَاةِ، وَالصِّيَامِ، وَالصَّدَقَةِ؟» قَالُوا: بَلَى قَالَ: "إِصْلَاحُ ذَاتِ الْبَيْنِ قَالَ: وَفَسَادُ ذَاتِ الْبَيْنِ هِيَ الْحَالِقَةُ" وأخرجه أبو داود في سننه، وصححه ابن حبان عَنْ أُمِّ الدَّرْدَاءِ، عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ، بلفظ: قال رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «أَلَا أُخْبِرُكُمْ، بِأَفْضَلَ مِنْ دَرَجَةِ الصِّيَامِ، وَالْقِيَامِ؟» ، قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: «إِصْلَاحُ ذَاتِ الْبَيْنِ، وَفَسَادُ ذَاتِ الْبَيْنِ هِيَ الْحَالِقَةُ».
وعليه فإن حل المشاكل في مناطق النزاع حيث لا وجود لدولة يكون صلحاً بشرط أن لا يحل هذا الصلح حراماً ولا يحرم حلالاً بناء على النصوص الشرعية الواردة ومنها:
أخرج أبو داود في سننه عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «الصُّلْحُ جَائِزٌ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ» زَادَ أَحْمَدُ، «إِلَّا صُلْحًا أَحَلَّ حَرَامًا، أَوْ حَرَّمَ حَلَالًا» وَزَادَ سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ، وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«الْمُسْلِمُونَ عَلَى شُرُوطِهِمْ»
وأخرج الترمذي في سننه عن كَثِيرَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ المُزَنِيُّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «الصُّلْحُ جَائِزٌ بَيْنَ المُسْلِمِينَ، إِلَّا صُلْحًا حَرَّمَ حَلَالًا، أَوْ أَحَلَّ حَرَامًا، وَالمُسْلِمُونَ عَلَى شُرُوطِهِمْ، إِلَّا شَرْطًا حَرَّمَ حَلَالًا، أَوْ أَحَلَّ حَرَامًا» وقال الترمذي: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ
وكذلك أخرجه ابن حبان في صحيحه عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بلفظ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «الصُّلْحُ جَائِزٌ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ إِلَّا صُلْحًا أَحَلَّ حَرَامًا أَوْ حَرَّمَ حَلَالًا».
فالإصلاح بين الناس مطلوب سواء أوجد الحاكم أم لم يوجد. هذا هو الحكم الشرعي الذي أراه في المسألة، والله سبحانه أعلم وأحكم.
والخلاصة:
1- إن الحدود يقيمها الحاكم الذي يحكم بالإسلام، وهي تكفر الذنب الذي أوجب الحد، أي لا يعاقب المذنب في الآخرة على ذلك الذنب الذي حُدَّ عليه في الدنيا. أخرج البخاري في صحيحه عن عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَكَانَ شَهِدَ بَدْرًا وَهُوَ أَحَدُ النُّقَبَاءِ لَيْلَةَ العَقَبَةِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ، وَحَوْلَهُ عِصَابَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ: «بَايِعُونِي عَلَى أَنْ لاَ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ شَيْئًا، وَلاَ تَسْرِقُوا، وَلاَ تَزْنُوا، وَلاَ تَقْتُلُوا أَوْلاَدَكُمْ، وَلاَ تَأْتُوا بِبُهْتَانٍ تَفْتَرُونَهُ بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَأَرْجُلِكُمْ، وَلاَ تَعْصُوا فِي مَعْرُوفٍ، فَمَنْ وَفَى مِنْكُمْ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ، وَمَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا فَعُوقِبَ فِي الدُّنْيَا فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ، وَمَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا ثُمَّ سَتَرَهُ اللَّهُ فَهُوَ إِلَى اللَّهِ، إِنْ شَاءَ عَفَا عَنْهُ وَإِنْ شَاءَ عَاقَبَهُ». فَبَايَعْنَاهُ عَلَى ذَلِكَ.
2- في مناطق النزاع حيث لا دولة، ولا حكم مستقر، فلا تترك المشاكل تتفاقم بل تحل صلحاً بتدخل أهل الحل والعقد والعلماء والذين لهم قبول مؤثر، ويصدقوا العمل ويخلصوا فيه، والله سبحانه المستعان.
هذا هو الراجح لدي في سؤالك حول إقامة الحدود، وقد ذكرت الأدلة الشرعية في ذلك ووجه الاستدلال ومن ثم استنباط الحكم، والله سبحانه أعلم وأحكم.
أخوكم عطاء بن خليل أبو الرشتة
رابط الجواب من صفحة الأمير على الفيسبوك
30 من محرم 1435
الموافق 2013/12/03م