الخلافة
الخلافة هي رئاسة عامة للمسلمين جميعاً في الدنيا لإقامة أحكام الشرع الإسلامي، وحمل الدعوة الإسلامية إلى العالم، وهي عينها الإمامة، فالإمامة والخلافة بمعنى واحد. وقد وردت الأحاديث الصحيحة بهاتين الكلمتين بمعنى واحد، ولم يرد لأي منهما معنى يخالف معنى الأخرى في أي نص شرعي، أي لا في الكتاب ولا في السنّة لأنهما وحدهما النصوص الشرعية. ولا يجب أن يلتزم هذا اللفظ أي الإمامة أو الخلافة، وإنما يلتزم مدلوله.
وإقامة خليفة فرض على المسلمين كافة في جميع أقطار العالم. والقيام به ـ كالقيام بأي فرض من الفروض التي فرضها الله على المسلمين ـ هو أمر محتم لا تخيير فيه ولا هوادة في شأنه، والتقصير في القيام به معصية من أكبر المعاصي يعذب الله عليها أشد العذاب.
والدليل على وجوب إقامة الخليفة على المسلمين كافة: الكتاب والسنة وإجماع الصحابة.
أما الكتاب، فإن الله تعالى أمر الرسول أن يحكم بين المسلمين بما أنزل الله، وكان أمره له بشكل جازم، قال تعالى مخاطباً الرسول عليه السلام:]فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق[ وقال: ]وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهوائهم واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك[. وخطاب الرسول خطاب لأمته ما لم يرد دليل يخصصه به، وهنا لم يرد دليل فيكون خطاباً للمسلمين بإقامة الحكم. ولا يعني إقامة الخليفة إلاّ إقامة الحكم والسلطان. على أن الله تعالى فرض على المسلمين طاعة أولي الأمر، أي الحاكم، مما يدل على وجوب وجود ولي الأمر على المسلمين. قال تعالى: ]يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم[ ولا يأمر الله بطاعة من لا وجود له. فدل على أن إيجاد ولي الأمر واجب. فالله تعالى حين أمر بطاعة ولي الأمر فإنّه يكون قد أمر بإيجاده. فإن وجود ولي الأمر يترتب عليه إقامة الحكم الشرعي، وترك إيجاده يترتب عليه تضييع الحكم الشرعي، فيكون إيجاده واجباً لما يترتب على عدم إيجاده من حُرمة، وهي تضييع الحكم الشرعي.
وأما السنّة فقد روى مسلم عن طريق نافع قال: قال لي ابن عمر سمعت رسول الله يقول: «من خلع يداً من طاعة لقي الله يوم القيامة لا حجة له، ومن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية» . فالنبي فرض على كل مسلم أن تكون في عنقه بيعة، ووصف من يموت وليس في عنقه بيعة بأنه مات ميتة جاهلية. والبيعة لا تكون إلا للخليفة ليس غير. وقد أوجب الرسول على كل مسلم أن تكون في عنقه بيعة لخليفة، ولم يوجب أن يبايع كل مسلم الخليفة. فالواجب هو وجود بيعة في عنق كل مسلم، أي وجود خليفة يستحق في عنق كل مسلم بيعة بوجوده. فوجود الخليفة هو الذي يوجد في عنق كل مسلم بيعة سواء بايع بالفعل أم لم يبايع، ولهذا كان الحديث دليلاً على وجوب نصب الخليفة وليس دليلاً على وجوب أن يبايع كل فرد الخليفة. لأن الذي ذمّه الرسول هو خلو عنق المسلم من بيعة حتى يموت، ولم يذم عدم البيعة. وروى مسلم عن الأعرج عن أبي هريرة عن النبي قال: «إنما الإمام جُنة يُقاتَل من ورائه ويُتّقى به» .
وروى مسلم عن أبي حازم قال: قاعدت أبا هريرة خمس سنين فسمعته يحدث عن النبي قال: «كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء، كلما هلك نبي خلفه نبي، وأنه لا نبي بعدي، وستكون خلفاء فتكثر، قالوا: فما تأمرنا ؟ قال: فوا ببيعة الأول فالأول، وأعطوهم حقهم فإن الله سائلهم عما استرعاهم» . وعن ابن عباس عن رسول الله قال : «من كره من أميره شيئاً فليصبر عليه، فإنه ليس أحد من الناس خرج من السلطان شبراً فمات عليه إلا مات ميتة جاهلية» . فهذه الأحاديث فيها إخبار من الرسول بأنه سيلي المسلمين ولاة، وفيها وصف للخليفة بأنه جُنة أي وقاية. فوصف الرسول بأن الإمام جنة هو إخبار عن فوائد وجود الإمام فهو طلب، لأن الإخبار من الله ومن الرسول إن كان يتضمن الذم فهو طلب ترك، أي نهي، وإن كان يتضمن المدح فهو طلب فعل، فإن كان الفعل المطلوب يترتب على فعله إقامة الحكم الشرعي، أو يترتب على تركه تضييعه، كان ذلك الطلب جازماً. وفي هذه الأحاديث أيضاً أن الذين يسوسون المسلمين هم الخلفاء، وهو يعني طلب إقامتهم، وفيها تحريم أن يخرج المسلم من السلطان، وهذا يعني أن إقامة المسلم سلطاناً، أي حكماً له أمر واجب. على أن الرسول أمر بطاعة الخلفاء، وبقتال من ينازعهم في خلافتهم، وهذا يعني أمراً بإقامة خليفة، والمحافظة على خلافته بقتال كل من ينازعه. فقد روى مسلم أن النبي قال : «ومن بايع إماماً فأعطاه صفقة يده وثمرة قلبه فليطعه إن استطاع، فإن جاء آخر ينازعه فاضربوا عنق الآخر» . فالأمر بطاعة الإمام أمر بإقامته، والأمر بقتال من ينازعه قرينة على الجزم في دوام إيجاده خليفة واحداً.
وأما إجماع الصحابة فإنهم رضوان الله عليهم أجمعوا على لزوم إقامة خليفة لرسول الله بعد موته، وأجمعوا على إقامة خليفة لأبي بكر، ثم لعمر، ثم لعثمان بعد وفاة كل منهم. وقد ظهر تأكيد إجماع الصحابة على إقامة خليفة من تأخيرهم دفن رسول الله عقب وفاته واشتغالهم بنصب خليفة له، مع أن دفن الميت عقب وفاته فرض، ويحرم على من يجب عليهم الاشتغال في تجهيزه ودفنه الاشتغال في شيء غيره حتى يتم دفنه. والصحابة الذين يجب عليهم الاشتغال في تجهيز الرسول ودفنه اشتغل قسم منهم بنصب الخليفة عن الاشتغال بدفن الرسول، وسكت قسم منهم عن هذا الاشتغال، وشاركوا في تأخير الدفن ليلتين مع قدرتهم على الإنكار، وقدرتهم على الدفن، فكان ذلك إجماعاً على الاشتغال بنصب الخليفة عن دفن الميت، ولا يكون ذلك إلاّ إذا كان نصب الخليفة أوجب من دفن الميت. وأيضاً فإن الصحابة كلهم أجمعوا طوال أيام حياتهم على وجوب نصب الخليفة، ومع اختلافهم على الشخص الذي ينتخب خليفة فإنهم لم يختلفوا مطلقاً على إقامة خليفة، لا عند وفاة رسول الله، ولا عند وفاة أي خليفة من الخلفاء الراشدين، فكان إجماع الصحابة دليلاً صريحاً وقوياً على وجوب نصب الخليفة.
على أن إقامة الدين وتنفيذ أحكام الشرع في جميع شؤون الحياة الدنيا والأخرى فرض على المسلمين بالدليل القطعي الثبوت القطعي الدلالة، ولا يمكن أن يتم ذلك إلاّ بحاكم ذي سلطان. والقاعدة الشرعية (إن ما لا يتم الواجب إلاّ به فهو واجب) فكان نصب الخليفة فرضاً من هذه الجهة أيضاً.
فهذه الأدلة صريحة بأن إقامة الحكم والسلطان على المسلمين منهم فرض، وصريحة بأن إقامة خليفة يتولى هو الحكم والسلطان فرض على المسلمين وذلك من أجل تنفيذ أحكام الشرع، لا مجرد حكم وسلطان. انظر قوله فيما روى مسلم عن طريق عوف بن مالك «خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم ويصلون عليكم وتصلّون عليهم، وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم وتلعنونهم ويلعنونكم. قيل يا رسول الله أفلا ننابذهم بالسيف، فقال: لا، ما أقاموا فيكم الصلاة، وإذا رأيتم من ولاتكم شيئاً تكرهونه فاكرهوا عمله ولا تنزعوا يداً من طاعة» . فهو صريح في الإخبار بالأئمة الأخيار والأئمة الأشرار، وصريح بتحريم منابذتهم بالسيف ما أقاموا الدين، لأن إقامة الصلاة كناية عن إقامة الدين والحكم به. فكون إقامة الخليفة ليقيم أحكام الإسلام، ويحمل دعوته فرضاً على المسلمين أمر لا شبهة في ثبوته في نصوص الشرع الصحيحة، فوق كونه فرضاً من جهة ما يحتمه الفرض الذي فرضه الله على المسلمين من إقامة حكم الإسلام وحماية بيضة المسلمين. إلاّ أن هذا الفرض هو فرض على الكفاية فإن أقامه بعضهم فقد وجد الفرض وسقط عن الباقين هذا الفرض، وإن لم يستطع أن يقيمه بعضهم ولو قاموا بالأعمال التي تقيمه فإنه يبقى فرضاً على جميع المسلمين، ولا يسقط الفرض عن أي مسلم ما دام المسلمون بغير خليفة.
والقعود عن إقامة خليفة للمسلمين معصية من أكبر المعاصي لأنها قعود عن القيام بفرض من أهم فروض الإسلام، ويتوقف عليه إقامة أحكام الدين، بل يتوقف عليه وجود الإسلام في معترك الحياة. فالمسلمون جميعاً آثمون إثماً كبيراً في قعودهم عن إقامة خليفة للمسلمين. فإن أجمعوا على هذا القعود كان الإثم على كل فرد منهم في جميع أقطار المعمورة. وإن قام بعض المسلمين بالعمل لإقامة خليفة ولم يقم بعضهم الآخر فإن الإثم يسقط عن الذين قاموا يعملون لإقامة الخليفة ويبقى الفرض عليهم حتى يقوم الخليفة. لأن الاشتغال بإقامة الفرض يسقط الإثم على تأخير إقامته عن وقته وعلى عدم القيام به، لتلبسه بالقيام به، ولاستكراهه بما يقهره عن إنجاز القيام به. أما الذين لم يتلبسوا بالعمل لإقامة الفرض فإن الإثم بعد ثلاثة أيام من ذهاب الخليفة إلى يوم نصب الخليفة يبقى عليهم، لأن الله قد أوجب عليهم فرضاً ولم يقوموا به ولم يتلبسوا بالأعمال التي من شأنها أن تقيمه، ولذلك استحقوا الإثم فاستحقوا عذاب الله وخزيه في الدنيا والآخرة. واستحقاقهم الإثم على قعودهم عن إقامة خليفة أو عن الأعمال التي من شأنها أن تقيمه، ظاهر صريح في استحقاق المسلم العذاب على تركه أي فرض من الفروض التي فرضها الله عليه، لا سيما الفرض الذي به تنفذ الفروض، وتقام أحكام الدين، ويعلو أمر الإسلام، وتصبح كلمة الله هي العليا في بلاد الإسلام، وفي سائر أنحاء العالم.
وأما ما ورد في بعض الأحاديث من العزلة عن الناس ومن الاقتصار على التمسك بأمور الدين في خاصته فإنها لا تصلح دليلاً على جواز القعود عن إقامة خليفة ولا على إسقاط الإثم عن هذا القعود. والمدقق فيها يجدها في شأن التمسك بالدين لا في شأن الترخيص بالقعود عن إقامة خليفة للمسلمين. فمثلاً روى البخاري عن بسر بن عبيد الله الحضرمي أنه سمع أبا إدريس الخولاني أنه سمع حذيفة بن اليمان يقول: «كان الناس يسألون رسول الله عن الخير وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني، فقلت يا رسول الله إنّا كنا في جاهلية وشر فجاءنا الله بهذا الخير فهل بعد هذا الخير من شر ؟ قال نعم، قلت وهل بعد ذلك الشر من خير ؟ قال نعم، وفيه دخن، قلت وما دخنه ؟ قال قوم يهدون بغير هديي تعرف منهم وتنكر، قلت فهل بعد ذلك الخير من شر ؟ قال نعم، دعاة على أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها، قلت يا رسول الله صفهم لنا، قال هم من جلدتنا، ويتكلمون بألسنتنا، قلت فما تأمرني إن أدركني ذلك ؟ قال تلزم جماعة المسلمين وإمامهم، قلت فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام، قال فاعتزل تلك الفرق كلها، ولو أن تعض بأصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت على ذلك» فإن هذا الحديث صريح بأن الرسول يأمر المسلم بأن يلزم جماعة المسلمين وأن يلزم إمامهم، ويترك الدعاة الذين هم على أبواب جهنم. فسأله السائل في حالة أن لا يكون للمسلمين إمام ولا لهم جماعة ماذا يصنع بالنسبة للدعاة الذين على أبواب جهنم، فحينئذ أمره الرسول أن يعتزل هذه الفرق، لا أن يعتزل المسلمين ولا أن يقعد عن إقامة إمام. فأمره صريح «فاعتزل تلك الفرق كلها» وبالغ في وصف اعتزاله لتلك الفرق إلى درجة أنه ولو بلغ اعتزاله إلى حد أن يعض على أصل شجرة حتى يدركه الموت وهو على ترك تلك الفرق التي على أبواب جهنم. ومعناه تمسك بدينك وبالبعد عن الدعاة المضلين الذين على أبواب جهنم. فهذا الحديث ليس فيه أي عذر لترك القيام بالعمل لإقامة خليفة ولا أي ترخيص في ذلك، وإنما هو محصور بالأمر بالتمسك بالدين واعتزال الدعاة الذين على أبواب جهنم، ويبقى الإثم عليه إذا لم يعمل لإقامة خليفة. فهو مأمور بأن يبتعد عن الفرق الضالة، ليسلم بدينه من دعاة الضلال ولو عض على أصل شجرة، لا أن يبتعد عن جماعة المسلمين ويقعد عن القيام بأحكام الدين وعن إقامة إمام للمسلمين.
ومثلاً روى البخاري عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله : «يوشك أن يكون خير مال المسلم غنم يتبع بها شعف الجبال ومواقع القطر يفر بدينه من الفتن» فإن هذا لا يعني اعتزال جماعة المسلمين والقعود عن القيام بأحكام الدين وعن إقامة خليفة للمسلمين حين تخلو الأرض من الخلافة، بل كل ما فيه هو بيان خير مال المسلم في أيام الفتن وخير ما يفعله للهروب من الفتن وليس هو للحث على البعد عن المسلمين واعتزال الناس.
وعليه فإنه لا يوجد عذر لمسلم على وجه الأرض في القعود عن القيام بما فرضه الله عليهم لإقامة الدين ألا وهو العمل لإقامة خليفة للمسلمين حين تخلو الأرض من الخلافة، وحين لا يوجد فيها من يقيم حدود الله لحفظ حرمات الله، ولا من يقيم أحكام الدين، ويجمع شمل جماعة المسلمين تحت راية لا إله إلاّ الله محمد رسول الله. ولا توجد في الإسلام أية رخصة في القعود عن القيام بهذا الفرض حتى يُقام به.
المدة التي يمهل فيها المسلمون لإقامة خليفة
والمدة التي يمهل فيها المسلمون لإقامة خليفة هي ليلتان، فلا يحل لمسلم أن يبيت ليلتين وليس في عنقه بيعة. أما تحديد أعلى الحد بليلتين فلأن نصب الخليفة فرض منذ اللحظة التي يتوفى فيها الخليفة السابق أو يعزل، ولكن يجوز تأخير النصب مع الاشتغال به مدة ليلتين، فإذا زاد على ليلتين ولم يقيموا خليفة ينظر، فإن كان المسلمون مشغولين بإقامة خليفة ولم يستطيعوا إنجاز إقامته خلال ليلتين لأمور قاهرة لا قبل لهم بدفعها، فإنه يسقط الإثم عنهم لانشغالهم بإقامة الفرض ولاستكراههم على التأخير بما قهرهم عليه. قال عليه السلام : «رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه» وإن لم يكونوا مشغولين بذلك فإنهم يأثمون جميعاً حتى يقوم الخليفة، وحينئذ يسقط الفرض عنهم. أما الإثم الذي ارتكبوه في قعودهم عن إقامة خليفة فإنه لا يسقط عنهم بل يبقى عليهم يحاسبهم الله عليه كمحاسبته على أية معصية يرتكبها المسلم في ترك القيام بالفرض.
أما كون المدة التي يمهل فيها المسلمون للقيام بفرض إقامة خليفة ليلتين فإن الدليل عليه هو أن الصحابة باشروا الاجتماع بالسقيفة للبحث في نصب خليفة لرسول الله منذ بلغهم نبأ وفاته، ولكنهم ظلوا في نقاش في السقيفة، ثم في اليوم الثاني جمعوا الناس في المسجد للبيعة فاستغرق ذلك ليلتين بثلاثة أيام. وأيضاً فإن عمر عهد لأهل الشورى عند ظهور تحقق وفاته من الطعنة، وحدد لهم ثلاثة أيام ثم أوصى أنه إذا لم يُتفق على الخليفة في ثلاثة أيام فليقتل المخالف بعد الأيام الثلاثة، ووكل خمسين رجلاً من المسلمين بتنفيذ ذلك، أي بقتل المخالف، مع أنهم من أهل الشورى ومن كبار الصحابة، وكان ذلك على مرأى ومسمع من الصحابة ولم ينقل عنهم مخالف أو منكر ذلك، فكان إجماعاً من الصحابة على أنه لا يجوز أن يخلو المسلمون من خليفة أكثر من ليلتين بثلاثة أيام، وإجماع الصحابة دليل شرعي كالكتاب والسنة.
انعقاد الخلافة
الخلافة عقد مراضاة واختيار، لأنها بيعة بالطاعة لمن له حق الطاعة من ولاية الأمر. فلا بد فيها من رضا من يبايع ليتولاها ورضا المبايعين له. ولذلك إذا رفض أحد أن يكون خليفة وامتنع من الخلافة لا يجوز إكراهه عليها، فلا يجبر على قبولها بل يعدل عنه إلى غيره. وكذلك لا يجوز أخذ البيعة من الناس بالإجبار والإكراه لأنه حينئذ لا يصح اعتبار العقد فيها صحيحاً لمنافاة الإجبار لها، لأنها عقد مراضاة واختيار، لا يدخله إكراه ولا إجبار كأي عقد من العقود. إلا أنه إذا تم عقد البيعة ممن يعتد ببيعتهم فقد انعقدت البيعة، وأصبح المبايَع هو ولي الأمر، فوجبت طاعته. وتصبح البيعة له بيعة على الطاعة وليست بيعة لعقد الخلافة. وحينئذ يجوز له أن يجبر الناس الباقين على بيعته لأنها إجبار على طاعته وهذا واجب شرعاً، وليست هي في هذه الحال عقد بيعة بالخلافة حتى يقال لا يصح فيه الإجبار. وعلى ذلك فالبيعة ابتداء عقد لا تصح إلاّ بالرضا والاختيار. أما بعد انعقاد البيعة للخليفة فتصبح طاعة أي انقياداً لأمر الخليفة ويجوز فيها الإجبار تنفيذاً لأمر الله تعالى. ولما كانت الخلافة عقداً فإنها لا تتم إلاّ بعاقد، كالقضاء لا يكون المرء قاضياً إلاّ إذا ولاه أحد القضاء. والإمارة لا يكون أحد أميراً إلاّ إذا ولاه أحد الإمارة. والخلافة لا يكون أحد خليفة إلاّ إذا ولاه أحد الخلافة. ومن هنا يتبين أنه لا يكون أحد خليفة إلاّ إذا ولاه المسلمون، ولا يملك صلاحيات الخلافة إلاّ إذا تم عقدها له، ولا يتم هذا العقد إلاّ من عاقدين أحدهما طالب الخلافة والمطلوب لها، والثاني المسلمون الذين رضوا به أن يكون خليفة لهم. ولهذا كان لابد لانعقاد الخلافة من بيعة المسلمين. وعلى هذا فإنه إذا قام متسلط واستولى على الحكم بالقوة فإنه لا يصبح بذلك خليفة ولو أعلن نفسه خليفة للمسلمين، لأنه لم تنعقد له خلافة من قبل المسلمين. ولو أخذ البيعة على الناس بالإكراه والإجبار لا يصبح خليفة ولو بويع، لأن البيعة بالإكراه والإجبار لا تعتبر ولا تنعقد بها الخلافة، لأنها عقد مراضاة واختيار لا تتم بالإكراه والإجبار، فلا تنعقد إلاّ بالبيعة عن رضا واختيار. إلاّ أن هذا المتسلط إذا استطاع أن يقنع الناس بأن مصلحة المسلمين في بيعته وأن إقامة أحكام الشرع تحتم بيعته وقنعوا بذلك ورضوا، ثم بايعوه عن رضا واختيار، فإنه يصبح خليفة منذ اللحظة التي بويع فيها عن رضا واختيار، ولو كان أخذ السلطان ابتداء بالتسلط والقوة. فالشرط هو حصول البيعة وأن يكون حصولها عن رضا واختيار، سواء كان من حصلت له البيعة هو الحاكم والسلطان أو لم يكن.
أما من هم الذين تنعقد الخلافة ببيعتهم فإن ذلك يفهم من استعراض ما حصل في بيعة الخلفاء الراشدين وما أجمع عليه الصحابة. ففي بيعة أبي بكر اكتفي بأهل الحَل والعقد من المسلمين الذين كانوا في المدينة وحدها، ولم يؤخذ رأي المسلمين في مكة وفي سائر جزيرة العرب، بل لم يسألوا. وكذلك الحال في بيعة عمر. أما في بيعة عثمان فإن عبد الرحمن بن عوف أخذ رأي المسلمين في المدينة، ولم يقتصر على سؤال أهل الحل والعقد كما فعل أبو بكر عند ترشيح عمر. وفي عهد علي اكتفي ببيعة أكثر أهل المدينة وأهل الكوفة وأفرد هو بالبيعة واعتبرت بيعته حتى عند الذين خالفوه وحاربوه، فإنهم لم يبايعوا غيره ولم يعترضوا على بيعته، وإنما طالبوا بدم عثمان، فكان حكمهم حكم البغاة الذين نقموا على الخليفة أمراً، فعليه أن يوضحه لهم ويقاتلهم، ولم يكونوا خلافة أخرى.
وقد حصل كل ذلك ـ أي بيعة الخليفة من أكثر أهل العاصمة فقط دون باقي الأقاليم إلا في مبايعة الإمام علي حين شارك أهل الكوفة في مبايعته ـ على مرأى ومسمع من الصحابة، ولم يكن هنالك مخالف في ذلك ولا منكر لهذا العمل من حيث اقتصار البيعة على أكثر أهل المدينة مع مخالفتهم في شخص الخليفة وإنكارهم أعماله، ولكن لم ينكروا اقتصار مبايعته على أكثر أهل المدينة، فكان ذلك إجماعاً من الصحابة على أن الخلافة تنعقد ممن يمثلون رأي المسلمين في الحكم، لأن أهل الحل والعقد وأكثر سكان المدينة كانوا هم أكثرية الممثلين لرأي الأمة في الحكم في جميع رقعة الدولة الإسلامية حينئذ.
وعلى هذا فإن الخلافة تنعقد إذا جرت البيعة من أكثر الممثلين لأكثر الأمة الإسلامية ممن يدخلون تحت طاعة الخليفة الذي يراد انتخاب خليفة مكانه كما جرى الحال في عهد الخلفاء الراشدين. وتكون بيعتهم حينئذ بيعة عقد للخلافة. أما من عداهم فإنه بعد انعقاد الخلافة للخليفة تصبح بيعته بيعة طاعة، أي بيعة انقياد للخليفة لا بيعة عقد للخلافة.
هذا إذا كان هنالك خليفة مات أو عزل، ويراد إيجاد خليفة مكانه. أما إذا لم يكن هنالك خليفة مطلقاً، وأصبح فرضاً على المسلمين أن يقيموا خليفة لهم لتنفيذ أحكام الشرع وحمل الدعوة الإسلامية إلى العالم، كما هي الحال منذ زوال الخلافة الإسلامية في اسطنبول سنة 1343 هجرية الموافق سنة 1924 ميلادية حتى يومنا هذا سنة 1415 هجرية الموافق سنة 1994 ميلادية، فإن كل قطر من الأقطار الإسلامية الموجودة في العالم الإسلامي أهل لأن يبايع خليفة، وتنعقد به الخلافة، فإذا بايع قطر ما من هذه الأقطار الإسلامية خليفة، وانعقدت الخلافة له، فإنه يصبح فرضاً على المسلمين أن يبايعوه بيعة طاعة أي بيعة انقياد، بعد أن انعقدت الخلافة له ببيعة أهل قطره، سواء أكان هذا القطر كبيراً كمصر أو تركيا أو إندونيسيا، أم كان صغيراً كالأردن أو ألبانيا أو لبنان. على شرط أن تتوفر فيه أربعة أمور:
أحدها: أن يكون سلطان ذلك القطر سلطاناً ذاتياً يستند إلى المسلمين وحدهم لا إلى دولة كافرة أو نفوذ كافر.
ثانيها: أن يكون أمان المسلمين في ذلك القطر بأمان الإسلام لا بأمان الكفر، أي أن تكون حمايته من الداخل والخارج حماية إسلام من قوة المسلمين باعتبارها قوة إسلامية بحتة.
ثالثها: أن يبدأ حالاً بمباشرة تطبيق الإسلام كاملاً تطبيقاً انقلابياً شاملاً، وأن يكون متلبساً بحمل الدعوة الإسلامية.
رابعها: أن يكون الخليفة المبايع مستكملاً شروط انعقاد الخلافة وإن لم يكن مستوفياً شروط الأفضلية، لأن العبرة بشروط الانعقاد.
فإذا استوفى ذلك القطر هذه الأمور الأربعة فقد وجدت الخلافة بمبايعة ذلك القطر وحده وانعقدت به وحده، ولو كان لا يمثل أكثر أهل الحل والعقد لأكثر الأمة الإسلامية، لأن إقامة الخلافة فرض كفاية، والذي يقوم بذلك الفرض على وجهه الصحيح يكون قام بالشيء المفروض، ولأن اشتراط أكثر أهل الحل والعقد إذا كانت هنالك خلافة موجودة يراد إيجاد خليفة فيها مكان الخليفة المتوفى أو المعزول. أما إذا لم تكن هنالك خلافة مطلقاً، ويراد إيجاد خلافة، فإن مجرد وجودها على الوجه الشرعي تنعقد الخلافة بأي خليفة يستكمل شروط الانعقاد مهما كان عدد المبايعين الذين بايعوه. لأن المسألة تكون حينئذ مسألة قيام بفرض قصر المسلمون عن القيام به مدة تزيد على الثلاثة أيام. فتقصيرهم هذا ترك لحقهم في اختيار من يريدون. فمن يقوم بالفرض يكفي لانعقاد الخلافة به، ومتى قامت الخلافة في ذلك القطر وانعقدت لخليفة، يصبح فرضاً على المسلمين جميعاً الانضواء تحت لواء الخلافة ومبايعة الخليفة، وإلا كانوا آثمين عند الله. ويجب على هذا الخليفة أن يدعوهم لبيعته، فإن امتنعوا كان حكمهم حكم البغاة ووجب على الخليفة محاربتهم حتى يدخلوا تحت طاعته. وإذا بويع لخليفة آخر في نفس القطر أو في قطر آخر بعد بيعة الخليفة الأول وانعقاد الخلافة له انعقاداً شرعياً مستوفياً الأمور الأربعة السابقة، وجب على المسلمين محاربة الخليفة الثاني حتى يبايع الخليفة الأول، لما روى مسلم عن طريق عبد الله بن عمرو بن العاص يقول: إنه سمع رسول الله يقول: «ومن بايع إماماً فأعطاه صفقة يده وثمرة قلبه فليطعه إن استطاع، فإن جاء آخر ينازعه فاضربوا عنق الآخر» ولأن الذي يجمع المسلمين هو خليفة المسلمين براية الإسلام. فإذا وجد الخليفة وجدت جماعة المسلمين ويصبح فرضاً الانضمام إليهم ويحرم الخروج عنهم. عن ابن عباس عن النبي قال : «من رأى من أميره شيئاً فليصبر عليه، فإنه من فارق الجماعة شبراً فمات إلاّ مات ميتة جاهلية» . وروى مسلم عن ابن عباس عن النبي قال : «من كره من أميره شيئاً فليصبر عليه، فإنه ليس أحد من الناس خرج من السلطان شبراً فمات عليه إلاّ مات ميتة جاهلية» . ومفهوم هذين الحديثين لزوم الجماعة ولزوم السلطان.
ولا حق في البيعة لغير المسلمين ولا تجب عليهم، لأنها بيعة على الإسلام وعلى كتاب الله وسنة رسول الله، وهي تقتضي الإيمان بالإسلام وبالكتاب والسنة. وغير المسلمين لا يجوز أن يكونوا في الحكم، ولا أن ينتخبوا الحاكم، لأنه لا سبيل لهم على المسلمين، ولأنه لا محل لهم في البيعة.
البيعـة
البيعة فرض على المسلمين جميعاً. وهي حق لكل مسلم رجلاً كان أو امرأة. أما كونها فرضاً فالدليل عليه أحاديث كثيرة منها قوله عليه الصلاة والسلام الذي رواه ابن عمر : «... ومن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية» . وأما كونها حقاً للمسلمين فإن البيعة من حيث هي تدل على ذلك، لأن البيعة هي من قِبَل المسلمين للخليفة، وليست من قِبَل الخليفة للمسلمين. وقد ثبتت بيعة المسلمين للرسول في الأحاديث الصحيحة. ففي البخاري عن عبادة بن الصامت قال : «بايعنا رسول الله على السمع والطاعة في المنشط والمكره وأن لا ننازع الأمر أهله وأن نقوم أو نقول بالحق حيثما كنا لا نخاف في الله لومة لائم» . وفي البخاري عن أيوب عن حفصة عن أم عطية قالت : «بايعنا النبي فقرأ عليّ أن لا يشركن بالله شيئاً ونهانا عن النياحة فقبضت امرأة منّا يدها فقالت فلانة أسعدتني وأنا أريد أن اجزيها فلم يقل شيئاً فذهبت ثم رجعت» . وفي البخاري عن أبي هريرة قال: قال رسول الله : «ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم: رجل على فضل ماء بالطريق يمنع منه ابن السبيل، ورجل بايع إماماً لا يبايعه إلاّ لدنياه إن أعطاه ما يريد وفى له وإلا لم يف له، ورجل يبايع رجلاً بسلعة بعد العصر فحلف بالله لقد أعطي بها كذا وكذا فصدقه فأخذها ولم يُعط بها» . وروى البخاري عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال : «كنا إذا بايعنا رسول الله على السمع والطاعة يقول لنا فيما استطعت» وفي البخاري أيضاً عن جرير بن عبد الله قال : «بايعت النبي على السمع والطاعة فلقنني فيما استطعت والنصح لكل مسلم» . وروى البخاري عن جنادة بن أبي أمية قال : «دخلنا على عبادة بن الصامت وهو مريض قلنا أصلحك الله حدث بحديث ينفعك الله به سمعته من النبي قال: دعانا النبي فبايعناه. فقال فيما أخذ علينا أن بايعنا على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا وعسرنا ويسرنا وأَثَرَةً علينا وأن لا ننازع الأمر أهله قال إلاّ أن تروا كفراً بواحاً عندكم من الله فيه برهان» .
فالبيعة لخليفة هي بيد المسلمين، وهي حقهم، وهم الذين يبايعون، وبيعتهم هي التي تجعل الخلافة تنعقد للخليفة. وتكون البيعة مصافحة باليد أو كتابة. فقد حدث عبد الله بن دينار قال : «شهدت ابن عمر حيث اجتمع الناس على عبد الملك قال: كتب إني اقر بالسمع والطاعة لعبد الله عبد الملك أمير المؤمنين على سنة الله وسنة رسوله ما استطعت» . ويصح أن تكون البيعة بأية وسيلة من الوسائل.
إلا أنه يشترط في البيعة أن تصدر من البالغ، فلا تصح البيعة من الصغار. «فقد حدث أبو عقيل زهرة بن معبد عن جده عبد الله بن هشام وكان قد أدرك النبي وذهبت به أمه زينب ابنة حميد إلى رسول الله فقالت يا رسول الله بايعه، فقال النبي هو صغير فمسح رأسه ودعا له» .
أما ألفاظ البيعة فإنها غير مقيدة بألفاظ معينة. ولكن لا بد أن تشتمل على العمل بكتاب الله وسنة رسوله بالنسبة للخليفة، وعلى الطاعة في العسر واليسر والمنشط والمكره بالنسبة للذي يعطي البيعة. ومتى أعطى المبايع البيعة للخليفة أو انعقدت الخلافة للخليفة ببيعة غيره من المسلمين فقد أصبحت البيعة أمانة في عنق المبايع لا يحل الرجوع عنها، فهي حق باعتبار انعقاد الخلافة حتى يعطيها، فإن أعطاها ألزم بها. ولو أراد أن يرجع عن ذلك فلا يجوز. ففي البخاري عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن أعرابياً بايع رسول الله على الإسلام فأصابه وعك فقال :" أقلني بيعتي " فأبى. ثم جاء فقال " أقلني بيعتي " فأبى، فخرج. فقال رسول الله : «المدينة كالكير تنفي خبثها وينصع طيبها» . وعن نافع قال: قال لي ابن عمر سمعت رسول الله يقول : «من خلع يداً من طاعة لقي الله يوم القيامة لا حجة له» . ونقض بيعة الخليفة خلع لليد من طاعة الله. غير أن هذا إذا كانت بيعته للخليفة بيعة انعقاد أو بيعة طاعة لخليفة رضيه المسلمون وبايعوه. أما لو بايع خليفة ابتداء ثم لم تتم البيعة له فإن له أن يتحلل من تلك البيعة على اعتبار أن المسلمين لم يقبلوه بمجموعهم. فالنهي في الحديث منصب على الرجوع عن بيعة خليفة لا عن بيعة رجل لم تتم له الخلافة.
شروط الخليفة
يجب أن تتوفر في الخليفة سبعة شروط حتى يكون أهلاً للخلافة، وحتى تنعقد البيعة له بالخلافة. وهذه الشروط السبعة، شروط انعقاد، إذا نقص شرط منها لم تنعقد الخلافة، وهي:
أولا: أن يكون مسلماً. فلا تصح الخلافة لكافر مطلقاً، ولا تجب طاعته، لأن الله تعالى يقول ]وَلَن يَجْعَلَ اللهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً[. والحكم هو أقوى سبيل للحاكم على المحكوم، والتعبير بلن المفيدة للتأبيد قرينة للنهي الجازم عن أن يتولى الكافر أي حكم مطلقاً سواء أكان الخلافة أم دونها.
ثانيا: أن يكون ذكراً. فلا يجوز أن يكون الخليفة أنثى، أي لا بد أن يكون رجلاً. فلا يصح أن يكون امرأة. لما روي عن أبي بَكْرَة قال: لقد نفعني الله بكلمة سمعتها من رسول الله أيام الجمل بعدما كدت ألحق بأصحاب الجمل فأقاتل معهم قال: لما بلغ رسول الله أن أهل فارس قد ملّكوا عليهم بنت كسرى قال : «لن يفلح قوم ولو أمرهم امرأة» . رواه البخاري فإخبار الرسول بنفي الفلاح عمن يولون أمرهم امرأة هو نهي عن توليتها، إذ هو من صيغ الطلب، وكون هذا الإخبار جاء إخباراً بالذم لمن يولون أمرهم امرأة بنفي الفلاح عنهم فإنه يكون قرينة على النهي الجازم. فيكون النهي هنا عن تولية المرأة قد جاء مقروناً بقرينة تدل على طلب الترك طلباً جازماً، فكانت تولية المرأة حراماً. والمراد توليتها الحكم: الخلافة وما دونها من المناصب التي تعتبر من الحكم، لأن موضوع الحديث ولاية بنت كسرى ملكاً فهو خاص بموضوع الحكم الذي جرى عليه الحديث. وليس خاصاً بحادثة ولاية بنت كسرى وحدها، كما أنه ليس عاماً في كل شيء فلا يشمل غير موضوع الحكم ولا بوجه من الوجوه.
ثالثا: أن يكون بالغاً، فلا يجوز أن يكون صبياً. لما روي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن رسول الله قال : «رفع القلم عن ثلاثة عن النائم حتى يستيقظ وعن الصبي حتى يكبر وعن المبتلى حتى يعقل» . ومن رفع القلم عنه لا يصح أن يتصرف في أمره وهو غير مكلف شرعاً فلا يصح أن يكون خليفة أو ما دون ذلك من الحكم لأنه لا يملك التصرفات. والدليل أيضاً على عدم جواز كون الخليفة صبياً، أن رسول الله رفض أن يبايعه صبي، فقد رفض بيعة عبد الله بن هشام وعلل ذلك بصغره فقال: «هو صغير» . فإذا كانت البيعة لا تصح من الصبي ولا يجوز له أن يبايع غيره خليفة فمن باب أولى أنه لا يجوز أن يكون خليفة.
رابعا: أن يكون عاقلاً، فلا يصح أن يكون مجنوناً لقول رسول الله : «رفع القلم عن ثلاث» وقال منها «... وعن المبتلى حتى يعقل» . ومن رفع القلم عنه فهو غير مكلف. ولأن العقل مناط التكليف وشرط لصحة التصرفات. والخليفة إنما يقوم بتصرفات الحكم وبتنفيذ التكاليف الشرعية، فلا يصح أن يكون مجنوناً.
خامسا: أن يكون عدلاً، فلا يصح أن يكون فاسقاً والعدالة شرط لازم لانعقاد الخلافة ولاستمرارها. لأن الله تعالى اشترط في الشاهد أن يكون عدلاً. قال تعالى: : ]وَأَشْهِدُواْ ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنكُمْ[ فمن هو أعظم من الشاهد وهو الخليفة من باب أولى أنه يلزم أن يكون عدلاً لأنه إذا شرطت العدالة للشاهد فشرطها للخليفة أولى.
سادساً: أن يكون حراً، لأن العبد مملوك لسيده فلا يملك التصرف بنفسه. ومن باب أولى أن لا يملك التصرف بغيره فلا يملك الولاية على الناس.
سابعاً: أن يكون قادراً على القيام بأعباء الخلافة، لأن ذلك من مقتضى البيعة، فلا تصح خلافة العاجز عن القيام بأعباء الخلافة.
هذه هي شروط انعقاد الخلافة للخليفة وما عدا هذه الشروط السبعة لا يصلح أي شرط لأن يكون شرط انعقاد، وإن كان يمكن أن يكون شرط أفضلية إذا صحت النصوص فيه، أو كان مندرجاً تحت حكم ثبت بنص صحيح. وذلك لأنه يلزم في الشرط حتى يكون شرط انعقاد أن يأتي الدليل على اشتراطه متضمناً طلباً جازماً حتى يكون قرينة على اللزوم. فإذا لم يكن الدليل متضمناً طلباً جازماً كان الشرط شرط أفضلية لا شرط انعقاد، ولم يرد دليل فيه طلب جازم إلاّ هذه الشروط السبعة، ولذلك كانت وحدها شروط انعقاد. أما ما عداها مما صح فيه الدليل فهو شرط أفضلية فقط. وعلى ذلك فلا يشترط لانعقاد الخلافة أن يكون الخليفة مجتهداً لأنه لم يصح نص في ذلك، ولأن عمل الخليفة الحكم، وهو لا يحتاج إلى اجتهاد لإمكانه أن يسأل عن الحكم وأن يقلد مجتهداً وأن يتبنى أحكاماً بناء على تقليده، فلا ضرورة لأن يكون مجتهداً، ولكن الأفضل أن يكون مجتهداً فإن لم يكن كذلك انعقدت خلافته. وكذلك لا يشترط لانعقاد الخلافة أن يكون الخليفة شجاعاً، أو من أصحاب الرأي المفضي إلى سياسة الرعية وتدبير المصالح، لأنه لم يصح حديث في ذلك، ولا يندرج تحت حكم شرعي يجعل ذلك شرط انعقاد، وإن كان الأفضل أن يكون شجاعاً ذا رأي وبصيرة. وكذلك لا يشترط لانعقاد الخلافة أن يكون الخليفة قرشياً. أما ما روي عن معاوية أنه قال سمعت رسول الله يقول : «إن هذا الأمر في قريش لا يعاديهم أحد إلاّ كبه الله على وجهه ما أقاموا الدين» رواه البخاري وروي أيضاً عن ابن عمر أنه قال: قال رسول الله : «لا يزال هذا الأمر في قريش ما بقي منهم اثنان» . فهذه الأحاديث وغيرها مما صح إسناده للرسول من جعل ولاية الأمر لقريش، فإنها وردت بصيغة الإخبار ولم يرد ولا حديث واحد بصيغة الأمر، وصيغة الإخبار وإن كانت تفيد الطلب ولكنه لا يعتبر طلباً جازماً ما لم يقترن بقرينة تدل على التأكيد ولم يقترن بأية قرينة تدل على التأكيد ولا في رواية صحيحة، فدل على أنه للندب لا للوجوب، فيكون شرط أفضلية لا شرط انعقاد. وأما قوله في الحديث: «لا يعاديهم أحد إلاّ كبه الله» . فإنه معنى آخر في النهي عن عدم معاداتهم، وليس تأكيداً لقوله: «إن هذا الأمر في قريش» فالحديث ينص على أن الأمر فيهم، وعلى النهي عن معاداتهم. وأيضاً فإن كلمة قريش اسم وليس صفة. ويقال له في اصطلاح علم الأصول لقب. ومفهوم الاسم أي مفهوم اللقب لا يعمل به مطلقاً لأن الاسم أي اللقب لا مفهوم له، ولذلك فإن النص على قريش لا يعني أن لا يجعل في غير قريش. فقوله عليه السلام: «أن هذا الأمر في قريش» ، «لا يزال هذا الأمر في قريش» لا يعني أن هذا الأمر لا يصح أن يكون في غير قريش، ولا أن كونه لا يزال فيهم أنه لا يصح أن يكون في غيرهم، بل هو فيهم ويصح أن يكون في غيرهم، فيكون النص عليهم غير مانع من وجود غيرهم في الخلافة. فيكون على هذا شرط أفضلية لا شرط انعقاد.
وأيضاً فقد أمَّرَ رسول الله عبد الله بن رواحة وزيد بن حارثة وأسامة بن زيد وجميعهم من غير قريش، فيكون الرسول قد أمَّر غير قريش. وكلمة هذا الأمر تعني ولاية الأمر أي الحكم. وليست هي نصاً في الخلافة وحدها. فكون الرسول يولي الحكم غير قريش دليل على أنه غير محصور فيهم وغير ممنوع عن غيرهم. وأيضاً فقد روى البخاري أن رسول الله قال: «اسمعوا وأطيعوا وإن استعمل عليكم عبد حبشي كأن رأسه زبيبة» وروى مسلم عن أبي ذر قال: «أوصاني خليلي أن أسمع وأطيع وإن كان عبداً مُجدَّع الأطراف» وفي رواية: «إن أُمّر عليكم عبد مُجدَّع أسود يقودكم بكتاب الله فاسمعوا له وأطيعوا» فهذه الأحاديث نصوص صريحة في جواز أن يتولى أمر المسلمين عبد أسود. وفي ذلك ما يدل صراحة على أن الخلافة أو ولاية الأمر يجوز أن يتولاها ناس من غير قريش بل من غير العرب. فتكون الأحاديث قد نصت على بعض من هم أهل للخلافة للدلالة على أفضليتهم، لا على حصر الخلافة بهم، وعدم انعقادها لغيرهم.
وكذلك لا يشترط أن يكون الخليفة هاشمياً أو علوياً لما ثبت أن النبي ولى الحكم غير بني هاشم وغير بني علي، وأنه حين خرج إلى تبوك ولّى على المدينة محمد بن مسلمة وهو ليس هاشمياً ولا علوياً. وكذلك ولّى اليمن معاذ بن جبل وعمرو بن العاص وهما ليسا هاشميين ولا علويين. وثبت بالدليل القاطع مبايعة المسلمين بالخلافة لأبي بكر وعمر وعثمان، ومبايعة علي لكل واحد منهم مع أنهم لم يكونوا من بني هاشم وسكوت جميع الصحابة على بيعتهم، ولم يرو عن أحد أنه أنكر بيعتهم لأنهم ليسوا هاشميين ولا علويين، فكان ذلك إجماعاً من الصحابة بمن فيهم علي وابن عباس وسائر بني هاشم على جواز أن يكون الخليفة غير هاشمي ولا علوي. أما الأحاديث الواردة في فضل سيدنا علي وفي فضل آل البيت فإنها تدل على فضلهم لا على أن شرط انعقاد الخلافة أن يكون الخليفة منهم.
ومن ذلك يتبين أنه لا يوجد أي دليل على وجود أي شرط لانعقاد الخلافة سوى الشروط السبعة السابقة، وما عداها على فرض صحة جميع النصوص التي وردت فيه أو اندراجه تحت حكم صحت فيه النصوص، فإنه يمكن أن يكون شرط أفضلية لا شرط انعقاد، والمطلوب شرعاً هو شرط انعقاد الخلافة للخليفة حتى يكون خليفة. أما ما عدا ذلك فهو يقال للمسلمين حين يعرض عليهم المرشحون للخلافة ليختاروا الأفضل. ولكن أي شخص اختاروه انعقدت خلافته إذا كانت توفرت فيه شروط الانعقاد وحدها ولو لم يتوفر فيه غيرها.
طلب الخلافة
طلب الخلافة والتنازع عليها جائز لجميع المسلمين وليس هو من المكروهات، ولم يرد أي نص في النهي عن التنازع عليها. وقد ثبت أن المسلمين تنازعوا عليها في سقيفة بني ساعدة والرسول مسجَّى على فراشه لم يدفن بعد، كما ثبت أن أهل الشورى الستة وهم من كبار الصحابة رضوان الله عليهم تنازعوا عليها على مرأى ومسمع من جميع الصحابة فلم ينكروا عليهم، وأقروهم على هذا التنازع، مما يدل على إجماع الصحابة على جواز التنازع على الخلافة، وعلى جواز طلبها والسعي لها ومقارعة الرأي بالرأي والحجة بالحجة في سبيل الوصول إليها. وأما النهي عن طلب الإمارة الوارد في الأحاديث فهو نهي للضعفاء أمثال أبي ذر ممن لا يصلحون لها. أما الذين يصلحون للإمارة فإنه يجوز لهم أن يطلبوها، فقد طلبها عمرو بن العاص وولاّه الرسول. فالأحاديث الواردة مخصوصة بمن ليس أهلاً لها، سواء الإمارة أو الخلافة. أما من كان أهلاً لها فإن الرسول لم ينكر عليه طلبها وقد ولاها لمن طلبها. فلما كان الرسول ولّى الإمارة لمن طلبها ونهى عن طلب الإمارة فإنه يحمل النهي على أنه نهي عن طلب من ليس أهلاً لها، لا النهي مطلقاً.
وحدة الخلافة
لا يجوز أن يكون في الدنيا إلاّ خليفة واحد، لما روي عن عبد الله بن عمرو بن العاص قوله أنه سمع رسول الله يقول : «ومن بايع إماماً فأعطاه صفقة يده وثمرة قلبه فليطعه إن استطاع، فإن جاء آخر ينازعه فاضربوا عنق الآخر» رواه مسلم ولما روى مسلم أيضاً عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله أنه قال: «إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الآخر منهما» وروى مسلم عن عرفجة قال: سمعت رسول الله يقول: «من أتاكم وأمركم جميع على رجل واحد يريد أن يشق عصاكم أو يفرق جماعتكم فاقتلوه» وروى مسلم أيضاً عن أبي حازم قال: قاعدت أبا هريرة خمس سنين فسمعته يحدث عن النبي ، قال: «كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء كلما هلك نبي خلفه نبي وإنه لا نبي بعدي وستكون خلفاء فتكثر، قالوا فما تأمرنا قال: فوا، ببيعة الأول فالأول وأعطوهم حقهم فإن الله سائلهم عما استرعاهم» . وإذا عقدت الخلافة لخليفتين في بلدين في وقت واحد لم تنعقد لهما، لأنه لا يجوز أن يكون للمسلمين خليفتان. ولا يقال البيعة لأسبقهما، لأن المسألة إقامة خليفة وليست السبق على الخلافة، ولأنها حق المسلمين جميعاً وليست حقاً للخليفة، فلا بد أن يرجع الأمر للمسلمين مرة ثانية ليقيموا خليفة واحداً إذا أقاموا خليفتين. ولا يقال يقرع بينهما، لأن الخلافة عقد والقرعة لا تدخل في العقود. ولا يقال إن الرسول يقول : «فوا ببيعة الأول فالأول» لأن ذلك إذا بويع لخلفاء مع وجود خليفة فإنه لا تكون البيعة إلاّ للأول الذي انعقدت بيعته، ومن جاء بعده لا تنعقد له بيعة. والكلام هنا إذا عقدت الخلافة لخليفتين بأن بايع أكثر أهل الحل والعقد خليفتين في وقت واحد، وكانت بيعة كل منهما منعقدة شرعاً فإنه يلغى العقدان ولا بد من الرجوع للمسلمين، فإن عقدوا البيعة لأحدهما انعقدت تجديداً له لا تثبيتاً لحاله الأولى، وإن عقدوها لغيرهما انعقدت. فالأمر للمسلمين جميعاً لا لأشخاص يتسابقون عليها. وإذا بويع لخليفتين، فكان أكثر أهل الحل والعقد في شؤون الحكم والخلافة بجانب واحد، وهم الذين بايعوه، وكانت الأقلية مع الآخر كانت البيعة لمن بايعه أكثر أهل الحل والعقد في شؤون الحكم، سواء كان الأول بيعةً، أو الثاني، أو الثالث، لأنه هو المعتبر خليفة شرعاً ببيعة أكثرية أهل الحل والعقد له، ومن عداه يجب أن يبايعه من أجل وحدة الخلافة وإلا قاتله المسلمون، لأن الخلافة تنعقد ببيعة أكثر المسلمين. فإذا انعقدت لرجل من المسلمين صار خليفة وحرمت بيعة غيره ووجبت طاعته على الجميع.
على أن واقع الحكم أن أكثر أهل الحل والعقد ممن بيدهم شؤون الحكم موجودون في العاصمة عادة، لأن هناك يجري تصريف شؤون الحكم العليا. فإذا بايع أهل العاصمة أي أهل الحل والعقد هناك خليفة، وبايع أهل إقليم أو أقاليم خليفة آخر، فإذا سبقت بيعة الذي في العاصمة كانت الخلافة له، لأن بيعة من في العاصمة قرينة دالة على أن أكثرية أهل الحل والعقد بجانبه، والبيعة في هذه الحال للأول. أما إذا بويع من في الأقاليم قبله فيجري حينئذ ترجيح من يكون بجانبه أهل الحل والعقد أكثر، لأن سبق أولئك في البيعة يضعف كون العاصمة قرينة على أن الأكثرية فيها. وعلى أي حال لا يجوز أن يبقى إلاّ خليفة واحد ولو أدى ذلك إلى محاربة من لم تنعقد له الخلافة.
الاستخلاف أو العهد
لا تنعقد الخلافة بالاستخلاف، أي بالعهد، لأنه عقد بين المسلمين والخليفة. فيشترط في انعقادها بيعة من المسلمين وقبول من الشخص الذي بايعوه. والاستخلاف أو العهد لا يتأتى أن يحصل فيه ذلك، فلا تنعقد به خلافة. وعلى ذلك فاستخلاف خليفة لخليفة آخر يأتي بعده لا يحصل فيه عقد الخلافة لأنه لا يملك حق عقدها. ولأن الخلافة حق للمسلمين لا للخليفة، فالمسلمون يعقدونها لمن يشاءون. فاستخلاف الخليفة غيره أي عهده بالخلافة لغيره لا يصح، لأنه إعطاء لما لا يملك، وإعطاء ما لا يملك لا يجوز شرعاً. فإذا استخلف الخليفة خليفة آخر سواء أكان ابنه أو قريبه أو بعيداً عنه لا يجوز، ولا تنعقد الخلافة له مطلقاً لأنه لم يجر عقدها ممن يملك هذا العقد، فهي عقد فضولي لا يصح.
وأما ما روي أن أبا بكر استخلف عمر، وأن عمر استخلف الستة، وأن الصحابة سكتوا ولم ينكروا ذلك فكان سكوتهم إجماعاً، فإن ذلك لا يدل على جواز الاستخلاف أي العهد. وذلك لأن أبا بكر لم يستخلف خليفة وإنما استشار المسلمين فيمن يكون خليفة لهم فرشح علياً وعمر. ثم إن المسلمين خلال ثلاثة أشهر في حياة أبي بكر اختاروا عمر بأكثريتهم، ثم بعد وفاة أبي بكر جاء الناس وبايعوا عمر، وحينئذ انعقدت الخلافة لعمر. أما قبل البيعة فلم يكن خليفة، ولم تنعقد الخلافة له لا بترشيح أبي بكر ولا باختيار المسلمين له، وإنما انعقدت حين بايعوه وقبل الخلافة. وأما عهد عمر للستة فهو ترشيح لهم من قبله بناء على طلب المسلمين، ثم حصل من عبد الرحمن بن عوف أن استشار المسلمين فيمن يكون منهم فاختار أكثرهم علياً إذا تقيد بما كان عليه أبو بكر وعمر، وإلا فعثمان. فلما رفض علي التقيد بما سار عليه أبو بكر وعمر بايع عبد الرحمن عثمان وبايعه الناس. فالخلافة انعقدت لعثمان ببيعة الناس له لا بترشيح عمر ولا باختيار الناس، ولو لم يبايعه الناس ويقبل هو لم تنعقد الخلافة. وعلى ذلك لا بد من بيعة المسلمين للخليفة، ولا يجوز أن تكون بالعهد أو الاستخلاف لأنها عقد ولاية وينطبق عليها ما ينطبق على العقود.
طريقة نصب الخليفة
حين أوجب الشرع على الأمة نصب خليفة عليها، حدد لها الطريقة التي يجري بها نصب الخليفة، وهذه الطريقة ثابتة بالكتاب والسنة وإجماع الصحابة. وتلك الطريقة هي البيعة. فيجري نصب الخليفة ببيعة المسلمين له على كتاب الله وسنة رسوله. أما كون هذه الطريقة هي البيعة فهي ثابتة من بيعة المسلمين للرسول، ومن أمر الرسول لنا ببيعة الإمام. أما بيعة المسلمين للرسول فإنها ليست بيعة على النبوة وإنما هي بيعة على الحكم، إذ هي بيعة على العمل وليست بيعة على التصديق. فبويع على اعتباره حاكماً لا على اعتباره نبياً ورسولاً. لأن الإقرار بالنبوة والرسالة إيمان وليس بيعة، فلم تبق إلاّ أن تكون البيعة له باعتباره رئيس الدولة. وقد وردت البيعة في القرآن والحديث قال تعالى :]يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَآءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَن لاَّ يُشْرِكْنَ بِاللهِ شَيْئاً وَلاَ يَسْرِقْنَ وَلاَ يَزْنِينَ وَلاَ يَقْتُلْنَ أَوْلاَدَهُنَّ وَلاَ يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيَهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلاَ يَعْصِينَكَ فيِ مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ[ وقال تعالى :]إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللهَ يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ[. وروى البخاري قال: حدثنا إسماعيل حدثني مالك عن يحيى بن سعيد قال أخبرني عبادة بن الوليد أخبرني أبي عن عبادة بن الصامت قال : «بايعنا رسول الله على السمع والطاعة في المنشط والمكره، وأن لا ننازع الأمر أهله وأن نقوم أو نقول بالحق حيثما كنّا لا نخاف في الله لومة لائم» وروى البخاري قال: حدثنا علي بن عبد الله حدثنا عبد الله بن يزيد حدثنا سعيد هو ابن أبي أيوب قال حدثني أبو عَقيل زهرة بن معبد عن جده عبد الله بن هشام وكان قد أدرك النبيr وذهبت به أمه زينب ابنة حُميد إلى رسول الله فقالت يا رسول الله بايعه فقال النبي : «هو صغير. فمسح رأسه ودعا له» وروى البخاري قال: حدثنا عبدانُ عن أبي حمزة عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله : «ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم: رجل على فضل ماء بالطريق يمنع منه ابن السبيل، ورجل بايع إماماً لا يبايعه إلا لدنياه إن أعطاه ما يريد وفى له وإلا لم يف له، ورجل يبايع رجلاً بسلعة بعد العصر فحلف بالله لقد أعطي بها كذا وكذا فصدقه فأخذها ولم يُعط بها» . فهذه الأحاديث الثلاثة صريحة في أن البيعة طريقة نصب الخليفة. فحديث عبادة قد بايع الرسول على السمع والطاعة وهذا للحاكم، وحديث عبد الله بن هشام رفض بيعته لأنه غير بالغ مما يدل على أنها بيعة حكم، وحديث أبي هريرة صريح ببيعة الإمام، وجاءت كلمة إمام نكرة أي أيّ إمام. وهناك أحاديث أخرى تنص على بيعة الإمام. ففي مسلم من طريق عبد الله بن عمرو أن النبي قال : «من بايع إماماً فأعطاه صفقة يده وثمرة قلبه فليطعه إن استطاع، فإن جاء آخر ينازعه فاضربوا عنق الآخر» وفي مسلم أيضاً عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله : «إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الآخر منهما» وروى مسلم عن أبي حازم قال: قاعدت أبا هريرة خمس سنين فسمعته يحدث عن النبي قال : «كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء كلما هلك نبي خلفه نبي وإنه لا نبي بعدي وستكون خلفاء فتكثر، قالوا فما تأمرنا ؟ قال: فوا ببيعة الأول فالأول» . فالنصوص صريحة من الكتاب والسنة بأن طريقة نصب الخليفة هي البيعة. وقد فهم ذلك جميع الصحابة وساروا عليه. فأبو بكر بويع بيعة خاصة في السقيفة وبيعة عامة في المسجد ثم بايعه من لم يبايع في المسجد ممن يعتد ببيعته كعلي بن أبي طالب ، وعمر بويع بيعة من المسلمين، وعثمان بويع بيعة من المسلمين، وعلي بويع بيعة من المسلمين. فالبيعة هي الطريقة الوحيدة لنصب خليفة للمسلمين.
أما التفصيلات العملية لإجراء هذه البيعة، فإنها ظاهرة في نصب الخلفاء الأربعة الذين جاءوا عقب وفاة الرسول مباشرة وهم أبو بكر وعمر وعثمان وعلي رضوان الله عليهم، وقد سكت عنها جميع الصحابة وأقروها مع أنها مما ينكر لو كانت مخالفة للشرع، لأنها تتعلق بأهم شيء يتوقف عليه كيان المسلمين، وبقاء الحكم بالإسلام. ومن تتبع ما يحصل في نصب هؤلاء الخلفاء نجد أن بعض المسلمين قد تناقشوا في سقيفة بني ساعدة وكان المرشحون سعداً وأبا عبيدة وعمر وأبا بكر ليس غير، وبنتيجة المناقشة بويع أبو بكر. ثم في اليوم الثاني دعي المسلمون إلى المسجد فبايعوه، وبهذه البيعة الأخيرة صار خليفة للمسلمين. وحين أحس أبو بكر بأن مرضه مرض موت دعا المسلمين يستشيرهم فيمن يكون خليفة للمسلمين. وكان الرأي في هذه الاستشارات يدور حول علي وعمر ليس غير، ومكث مدة ثلاثة أشهر في هذه الاستشارات. ولما أتمها وعرف أكثر رأي المسلمين أعلن لهم أن عمر هو الخليفة بعده، وعقب وفاته مباشرة حضر المسلمون إلى المسجد وبايعوا عمر بالخلافة، فصار بهذه البيعة خليفة للمسلمين وليس بالاستشارات ولا بإعلان أبي بكر. وحين طُعن عمر طلب منه المسلمون أن يستخلف فأبى، فألحوا عليه فجعلها في ستة، ثم بعد وفاته أناب المرشحون أحدهم وهو عبد الرحمن بن عوف فرجع لرأي المسلمين واستشارهم، ثم أعلن بيعة عثمان، فقام المسلمون فبايعوا عثمان فصار خليفة ببيعة المسلمين لا باستخلاف عمر ولا بإعلان عبد الرحمن ثم قتل عثمان، فبايع جمهرة المسلمين في المدينة والكوفة علي بن أبي طالب فصار خليفة ببيعة المسلمين.
ومن ذلك يتبين أن التفصيلات العملية لإجراء البيعة للخلافة هي أن يتناقش المسلمون فيمن يصلح للخلافة، حتى إذا استقر الرأي على أشخاص، عُرضوا على المسلمين، فمن اختاروه منهم طلب منهم أن يبايعوه كما طلب من باقي المرشحين أن يبايعوه. ففي سقيفة بني ساعدة صار النقاش في سعد وأبي عبيدة وعمر وأبي بكر ثم بويع أبو بكر، فكانت بيعته بمثابة اختيار، ولكنها لم تلزم المسلمين، ثم جرت بيعته من عامة المسلمين.
وأبو بكر تذاكر مع المسلمين في علي ثم أعلن اسم عمر ثم بويع، وعمر جعلها في ستة، وبعد الرجوع إلى المسلمين أعلن عبد الرحمن اسم عثمان، ثم بويع. وعلي بويع مباشرة فقد كان الوضع وضع فتنة، وكان معروفاً أنه لا يدانيه في الترشيح للخلافة عند المسلمين أحد حين قتل عثمان. وبذلك يكون أمر البيعة جارياً على أن يحصر المرشحون للخلافة بعد المناقشة فيمن يصلح لها، ثم يجري انتخاب خليفة منهم، ثم تؤخذ له البيعة على الناس. ولئن كان هذا واضحاً في استشارات أبي يكر فإنه يظهر أوضح في بيعة عثمان. روى البخاري عن الزهري أن حميد بن عبد الرحمن أخبره أن المِسْوَر بن مَخْرمَة أخبره أن الرهط الذين ولاّهم عمر اجتمعوا فتشاوروا. قال لهم عبد الرحمن: " لست بالذي أنافسكم على هذا الأمر، ولكنكم إن شئتم اخترت لكم منكم، فجعلوا ذلك إلى عبد الرحمن، فلما ولّوا عبد الرحمن أمرهم فمال الناس على عبد الرحمن حتى ما أرى أحداً من الناس يتبع أولئك الرهط ولا يطأ عقبه. ومال الناس على عبد الرحمن يشاورونه تلك الليالي حتى إذا كانت الليلة التي أصبحنا منها فبايعنا عثمان. قال المسور: "طرقني عبد الرحمن بعد هجع من الليل فضرب الباب حتى استيقظت فقال: أراك نائماً، فوا لله ما اكتحلت هذه الليلة بكبير نوم، انطلق فادع الزبير وسعداً، فدعوتهما له فشاروهما ثم دعاني فقال: ادع لي عليّاً فدعوته فناجاه حتى إبهارَّ الليَّل، ثم قام علي من عنده وهو على طمع، وقد كان عبد الرحمن يخشى من علي شيئاً، ثم قال: ادع لي عثمان فدعوته فناجاه حتى فرق بينهما المؤذن بالصبح. فلما صلى للناس الصبح واجتمع أولئك الرهط عند المنبر فأرسل إلى من كان حاضراً من المهاجرين والأنصار وأرسل إلى أمراء الأجناد وكانوا وافوا تلك الحجة مع عمر، فلما اجتمعوا تشهّد عبد الرحمن ثم قال: أما بعد يا علي إني قد نظرت في أمر الناس فلم أرهم يعدلون بعثمان فلا تجعلن على نفسك سبيلا، ثم أخذ بيد عثمان فقال أبايعك على سنة الله ورسوله والخليفتين من بعده، فبايعه عبد الرحمن وبايعه الناس والمهاجرون والأنصار وأمراء الأجناد والمسلمون ".
فالمرشحون للخلافة حُصروا في الرهط الذين سماهم عمر بعد أن طلب إليه المسلمون ذلك، وعبد الرحمن بن عوف بعد أن أخرج نفسه من الترشيح للخلافة أخذ رأي المسلمين فيمن يكون خليفة، ثم أعلن اسم الذي يريده المسلمون بعد أن شاور الناس. وبعد إعلان اسم من يريده الناس كانت البيعة له، فصار خليفة بهذه البيعة. وعلى ذلك فالحكم الشرعي في نصب الخليفة هو أن يحصر المرشحون للخلافة من قبل من يمثلون رأي جمهرة المسلمين، ثم تعرض أسماؤهم على المسلمين ويطلب منهم أن يختاروا واحداً من هؤلاء المرشحين ليكون خليفة لهم، ثم ينظر من تكون جمهرة المسلمين أي أكثريتهم بجانبه، فتؤخذ له البيعة على المسلمين جميعاً، سواء من اختاره أو من لم يختره، لأن إجماع المسلمين إجماعاً سكوتياً على حصر عمر للمرشحين للخلافة في ستة أشخاص معينين، وإجماع المسلمين أيضاً على أخذ عبد الرحمن لرأي المسلمين جميعاً فيمن يكون خليفة عليهم، ثم إجماعهم على إجراء البيعة لمن أعلن عبد الرحمن اسمه بأنه هو الذي اختاره المسلمون خليفة لهم حين قال " إني نظرت في أمر الناس فلم أرهم يعدلون بعثمان " كل ذلك صريح في الحكم الشرعي في نصب الخليفة.
بقيت مسألتان، إحداهما من هم المسلمون الذين ينصبون الخليفة ؟ هل هم أهل الحل والعقد أم هم عدد معين من المسلمين ؟ أم هم جميع المسلمين ؟ والمسألة الثانية هي: هل الأعمال التي تجري في هذا العصر في الانتخابات كالاقتراع السري وصناديق الاقتراع وفرز الأصوات، هي ما يأمر به الإسلام أم لا ؟
أما المسألة الأولى: فإن الشارع قد جعل السلطان للأمة وجعل نصب الخليفة للمسلمين عامة، ولم يجعله لفئة دون فئة، ولا لجماعة دون جماعة، فالبيعة فرض على المسلمين عامة «من مات وليس في عنقه بيعة فقد مات ميتة جاهلية» وهذا عام لكل مسلم. ولذلك ليس أهل الحل والعقد هم أصحاب الحق في نصب الخليفة دون باقي المسلمين. وكذلك ليس أصحاب الحق أشخاصاً معينين، وإنما هذا الحق لجميع المسلمين دون استثناء أحد، حتى الفجار والمنافقين ما داموا مسلمين بالغين، لأن النصوص جاءت عامة ولم يرد ما يخصصها سوى رفض بيعة الصغير الذي لم يبلغ، فتبقى عامة.
إلا أنه ليس شرطاً أن يباشر جميع المسلمين هذا الحق، لأنه حق لهم، وهو وإن كان فرضاً عليهم، لأن البيعة فرض، ولكنه فرض على الكفاية وليس فرض عين، فإذا قام به البعض سقط عن الباقين. إلا أنه يجب أن يمكّن جميع المسلمين من مباشرة حقهم في نصب الخليفة، بغض النظر عما إذا استعملوا هذا الحق أم لم يستعملوه، أي يجب أن يكون في قدرة كل مسلم التمكن من القيام بنصب الخليفة بتمكينه من ذلك تمكيناً تاماً. فالقضية هي تمكين المسلمين من القيام بما فرضه الله عليهم من نصب الخليفة قياماً يسقط عنهم هذا الفرض، وليست المسألة قيام جميع المسلمين بهذا الفرض بالفعل. لأن الفرض الذي فرضه الله هو أن يجري نصب الخليفة من المسلمين برضاهم، لا أن يجريه جميع المسلمين. ويتفرع على هذا أمران: أحدهما أن يتحقق رضا جميع المسلمين بنصبه، والثاني أن لا يتحقق رضا جميع المسلمين بهذا النصب مع تحقق التمكين لهم في كلا الأمرين.
أما بالنسبة للأمر الأول فلا يشترط عدد معين فيمن يقومون بنصب الخليفة، بل أي عدد بايع الخليفة وتحقق في هذه البيعة رضا المسلمين بسكوتهم، أو بإقبالهم على طاعته بناء على بيعته، أو بأي شيء يدل على رضاهم، يكون الخليفة المنصوب خليفة للمسلمين جميعاً، ويكون هو الخليفة شرعاً ولو قام بنصبه خمسة أشخاص إذ يتحقق فيهم الجمع في إجراء نصب الخليفة، ويتحقق الرضا بالسكوت والمبادرة للطاعة، أو ما شاكل ذلك، على شرط أن يتم هذا بمنتهى الاختيار والتمكين من إبداء الرأي تمكيناً تاماً. أما إذا لم يتحقق رضا جميع المسلمين، فإنه لا يتم نصب الخليفة إلاّ إذا قام بنصبه جماعة يتحقق في نصبهم له رضا جمهرة المسلمين، أي أكثريتهم، مهما كان عدد هذه الجماعة. ومن هنا جاء قول بعض الفقهاء: يجري نصب الخليفة ببيعة أهل الحل والعقد له - إذ يعتبرون أهل الحل والعقد الجماعة التي يتحقق رضا المسلمين بما تقوم به من بيعة أي رجل حائز على شروط انعقاد الخلافة - وعلى ذلك فليس بيعة أهل الحل والعقد هي التي يجري فيها نصب الخليفة، وليس وجود بيعتهم شرطاً لجعل نصب الخليفة نصباً شرعياً، بل بيعة أهل الحل والعقد أمارة من الأمارات الدالة على تحقق رضا المسلمين بهذه البيعة، لأن أهل الحل والعقد كانوا يعتبرون الممثلين للمسلمين. وكل أمارة تدل على تحقق رضا المسلمين ببيعة خليفة يتم بها نصب الخليفة، ويكون نصبه بها نصباً شرعياً.
وعلى ذلك فالحكم الشرعي هو أن يقوم بنصب الخليفة جمع يتحقق في نصبهم له رضا المسلمين بأي أمارة من أمارات التحقق، سواء أكان ذلك بكون المبايعين أكثر أهل الحل والعقد، أو بكونهم أكثر الممثلين للمسلمين، أو كان بسكوت المسلمين عن بيعتهم له، أو مسارعتهم بالطاعة بناء على هذه البيعة، أو بأي وسيلة من الوسائل، ما دام متوفراً لهم التمكين التام من إبداء رأيهم. وليس من الحكم الشرعي كونهم أهل الحل والعقد ولا كونهم أربعة أو أربعمائة أو أكثر أو أقل، أو كونهم أهل العاصمة أو أهل الأقاليم. بل الحكم الشرعي كون بيعتهم يتحقق فيها الرضا من قبل جمهرة المسلمين بأية أمارة من الأمارات، مع تمكينهم من إبداء رأيهم تمكيناً تاماً.
والمراد بجميع المسلمين، المسلمون الذين يعيشون في البلاد الخاضعة للدولة الإسلامية، أي الذين كانوا رعايا للخليفة السابق إن كانت الخلافة قائمة، أو الذين يتم بهم قيام الدولة الإسلامية وتنعقد الخلافة بهم إن كانت الدولة الإسلامية غير قائمة من قبلهم، وقاموا هم بإيجادها واستئناف الحياة الإسلامية بواسطتها. أما غيرهم من المسلمين فلا تشترط بيعتهم ولا يشترط رضاهم. لأنهم إما أن يكونوا خارجين على سلطان الإسلام، أو يكونوا يعيشون في دار كفر ولا يتمكنون من الانضمام إلى دار الإسلام. وكلاهما لا حق له في بيعة الانعقاد، وإنما عليه بيعة الطاعة، لأن الخارجين على سلطان الإسلام حكمهم حكم البغاة. والذين في دار الكفر لا يتحقق بهم قيام سلطان الإسلام حتى يقيموه بالفعل، أو يدخلوا فيه. وعلى ذلك فالمسلمون الذين لهم حق بيعة الانعقاد، ويشترط تحقق رضاهم حتى يكون نصب الخليفة نصباً شرعياً، هم الذين يقوم بهم سلطان الإسلام بالفعل. ولا يقال هذا الكلام بحث عقلي، وليس هنالك دليل شرعي عليه. لا يقال ذلك لأنه بحث في مناط الحكم وليس في نفس الحكم، ولهذا لا يؤتى له بدليل شرعي وإنما هو ببيان حقيقته. فأكل الميتة حرام، هو الحكم الشرعي. وتحقيق ما هي الميتة هو مناط الحكم، أي الموضوع الذي يتعلق به الحكم. فقيام المسلمين بنصب الخليفة هو الحكم الشرعي، وأن يكون هذا النصب بالرضا والاختيار هو الحكم الشرعي أيضاً، وهذا هو الذي يؤتى له بالدليل. أما من هم المسلمون الذين يتم بهم النصب، وما هو الأمر الذي يتحقق فيه الرضا والاختيار، فذلك مناط الحكم أي الموضوع الذي جاء الحكم لمعالجته، وانطباق الحكم الشرعي عليه هو الذي يجعل الحكم الشرعي فيه متحققاً. وعليه يبحث هذا الشيء الذي جاء الحكم الشرعي له ببيان حقيقته.
ولا يقال إن مناط الحكم هو علة الحكم فلا بد له من دليل شرعي، لا يقال ذلك لأن مناط الحكم غير علة الحكم، وهنالك فرق كبير بين العلة والمناط. فالعلة هي الباعث على الحكم أي هي الشيء الدال على مقصود الشارع من الحكم، وهذه لا بد لها من دليل شرعي عليها حتى يفهم أنها هي مقصود الشارع من الحكم، أما مناط الحكم فهو الموضوع الذي جاء به الحكم أي هو المسألة التي ينطبق عليها الحكم وليس دليله ولا علته. ومعنى كونه الشيء الذي نيط به الحكم هو أنه الشيء الذي عُلّق به الحكم أي أنه قد جيء بالحكم له أي لمعالجته لا أنه جيء بالحكم لأجله حتى يقال إنه علة الحكم. فمناط الحكم هو الناحية غير النقلية في الحكم الشرعي. وتحقيقه غير تحقيق العلة فإن تحقيق العلة يرجع إلى فهم النص الذي جاء معللاً وهذا فهم للنقليات وليس هو المناط، بل المناط هو ما سوى النقليات والمراد به الواقع الذي يطبق عليه الحكم الشرعي. فإذا قلت الخمر حرام فإن الحكم الشرعي هو حرمة الخمر. فتحقيق كون الشراب المعين خمراً أو ليس بخمر ليتأتى الحكم عليه بأنه حرام أو ليس بحرام هو تحقيق المناط، فلا بد من النظر في كون الشراب خمراً أو غير خمر حتى يقال عنه إنه حرام، وهذا النظر في حقيقة الخمر هو تحقيق المناط. وإذا قلت الماء الذي يجوز الوضوء منه هو الماء المطلق، فإن الحكم الشرعي هو كون الماء المطلق هو الذي يجوز منه الوضوء. فتحقيق كون الماء مطلقاً أو غير مطلق ليتأتى الحكم عليه بأنه يجوز الوضوء منه هو تحقيق المناط، فلا بد من النظر في كون الماء مطلقاً أو غير مطلق حتى يقال أنه يجوز الوضوء منه، وهذا النظر في حقيقة الماء هو تحقيق المناط. وإذا قلت إنّ المحدث يجب عليه الوضوء للصلاة، فتحقيق كون الشخص محدثاً أو ليس بمحدث هو تحقيق المناط وهكذا. وقد قال الشاطبي في الموافقات " فهذه المواضع وأشباهها مما يقتضي تعيين المناط لا بد فيها من أخذ الدليل على وفق الواقع بالنسبة إلى كل نازلة " وقال " قد يتعلق الاجتهاد بتحقيق المناط فلا يفتقر في ذلك إلى العلم بمقاصد الشارع كما أنه لا يفتقر إلى معرفة علم العربية لأن المقصود من هذا الاجتهاد إنما هو العلم بالموضوع على ما هو عليه وإنما يفتقر فيه إلى العلم بما لا يعرف ذلك الموضوع إلاّ به من حيث قصدت المعرفة به فلا بد أن يكون المجتهد عارفاً ومجتهداً من تلك الجهة التي ينظر فيها ليتنزل الحكم الشرعي على وفق ذلك المقتضى".
فإن تحقيق العلة يرجع إلى فهم النص الذي جاء معللاً وهذا فهم النقليات وليس هو المناط بل المناط هو ما سوى النقليات والمراد به الواقع الذي يطبق عليه الحكم الشرعي، فإذا قلت الخمر حرام فتحقيق كون الشيء خمراً أو ليس بخمر هو تحقيق المناط. وإذا قلت الماء المطلق هو الذي يتوضأ منه كان تحقيق كون الماء مطلقاً أو غير مطلق هو تحقيق المناط، وإذا قيل إنّ المحدث يجب عليه الوضوء كان تحقيق كون الشخص محدثاً أو ليس بمحدث هو تحقيق المناط. فتحقيق المناط هو تحقيق الشيء الذي هو موضوع الحكم، ولذلك لا يشترط فيمن يحقق المناط أن يكون مجتهداً أو مسلماً بل يكفي أن يكون عالماً بالشيء. ومن هنا كان البحث فيمن هم المسلمون الذين تكون بيعتهم دالة على الرضا هو بحث في تحقيق المناط.
هذا من ناحية المسألة الأولى. أما المسألة الثانية وهي ما يحصل في هذه الأيام من إجراء الانتخابات بالاقتراع السري، واتخاذ صناديق اقتراع، وفرز الأصوات وما شاكل ذلك، فإن هذا كله أساليب لأداء الاختيار بالرضى. ولذلك لا تدخل تحت الحكم الشرعي، ولا في مناط الحكم الشرعي الذي هو الموضوع الذي جاء الحكم لمعالجته لأنها ليست من أفعال العباد، ولا هي محل انطباق الحكم الشرعي عليها، وإنما هي وسائل لفعل العبد الذي جاء الحكم الشرعي له، أي الذي جاء خطاب الشارع متعلقاً به، ألا وهو نصب الخليفة بالرضا في حالة من التمكين التام من إبداء الرأي. وعليه ليست هذه الأساليب والوسائل مما يبحث فيه عن الأحكام الشرعية، وهي تدخل في الأشياء التي جاء النص عاماً بإباحتها، ولم يرد دليل خاص بحرمتها، فتبقى مباحة. فللمسلمين أن يختاروا هذه الأساليب، ولهم أن يختاروا غيرها. فأي أسلوب يؤدي إلى تمكين المسلمين من القيام بفرض نصب الخليفة بالرضا والاختيار، يجوز للمسلمين أن يستعملوه ما لم يرد دليل شرعي على تحريمه. ولا يقال إن هذا الأسلوب فعل العبد فلا يجري إلا وفق حكم شرعي فلا بد من دليل يدل على حكمه، لا يقال ذلك لأن فعل العبد الذي يجب أن يجري وفق الحكم الشرعي ولا بد من دليل يدل على حكمه إنما هو الفعل الذي يعتبر أصلاً أو يعتبر فرعاً لفعل لم يأت دليل عام لأصله وإنما جاء دليل أصله خاصاً. وذلك مثل الصلاة فإن دليلها خاص بالقيام بها ولا يشمل كل فعل من أفعالها. أما الفعل الذي هو فرع لفعل ورد دليل عام لأصله فإنه ينجر الدليل العام على جميع فروعه، ويحتاج تحريم الفعل الذي هو فرع إلى دليل يحرمه حتى يخرج عن حكم أصله ويأخذ حكماً جديداً، وهكذا جميع الأساليب.
وفي مسألة الانتخابات هذه، الفعل الأصل هو نصب الخليفة بالرضا والاختيار. أما الأفعال التي تتفرع عن ذلك من مثل الاقتراع واتخاذ صناديق الاقتراع وفرز الأصوات وما شاكل ذلك فإنها تدخل تحت حكم الأصل ولا تحتاج إلى دليل آخر، وإخراجها عن حكم الأصل أي تحريمها هو الذي يحتاج إلى دليل. وهكذا جميع الأساليب التي هي أفعال العباد. أما الوسائل وهي الأدوات مثل الصندوق الذي توضع فيه الأوراق فإنها تأخذ الحكم الذي أخذته الأشياء لا الأفعال وتنطبق عليها قاعدة " الأصل في الأشياء الإباحة ما لم يرد دليل التحريم ". والفرق بين الطريقة والأسلوب هو أن الطريقة هي الفعل الذي يعتبر أصلاً من حيث هو، أو فرعاً لأصل لم يأت دليل عام لأصله بل كان دليله خاصاً به. أما الأسلوب فهو الفعل الذي يكون فرعاً لفعل قد جاء له ـ أي للأصل ـ دليل عام. ومن هنا كان لا بد أن تكون الطريقة مستندة إلى دليل شرعي لأنها حكم شرعي، ولذلك يجب أن تلتزم ولا يخير فيها المسلم ما لم يكن حكمها الإباحة، بخلاف الأسلوب فإنه لا يستند إلى دليل شرعي بل يجري عليه حكم أصله. ولذلك لا يجب التزام أسلوب معين ولو فعله الرسول ، بل كل أسلوب للمسلم أن يفعله ما دام يؤدي إلى القيام بالعمل، فيصبح فرعاً له. ولذلك قيل إن الأسلوب يعينه نوع العمل.
عزل الخليفة
ينعزل الخليفة إذا تغير حاله تغيراً يخرجه عن الخلافة. ويصبح الخليفة واجب العزل إذا تغيرت حالة تغيراً لا يخرجه عن الخلافة ولكن لا يجوز له شرعاً الاستمرار فيها. والفرق بين الحال التي تخرج الخليفة عن الخلافة، والحال التي يصبح فيها واجب العزل، هو أن الحالة الأولى وهي التي تخرجه عن الخلافة لا تجب فيها طاعته بمجرد حصول الحالة له، وأما الحالة الثانية وهي التي يصبح فيها واجب العزل فإن طاعته تظل واجبة حتى يتم عزله بالفعل. والذي يتغير به حاله فيخرجه عن الخلافة ثلاثة أمور هي:
أحدها - إذا ارتد عن الإسلام.
ثانيها - إذا جن جنوناً مطبقاً لا يصحو منه.
ثالثها - أن يصير مأسوراً في يد عدو قاهر لا يقدر على الخلاص منه وكان غير مأمول الفكاك من الأسر.
ففي هذه الأحوال الثلاثة يخرج عن الخلافة وينعزل في الحال ولو لم يحكم بعزله، فلا تجب طاعته ولا تنفذ أوامره من قبل كل من ثبت لديه وجود واحد من هذه الصفات الثلاث في الخليفة. إلا أنه يجب إثبات أنه حصلت له هذه الأحوال، وأن يكون إثبات ذلك أمام محكمة المظالم فتحكم بأنه خرج عن الخلافة وتحكم بعزله حتى يعقد المسلمون الخلافة لغيره. أما الذي يتغير به حالة تغيراً لا يخرجه عن الخلافة، ولكنه لا يجوز له فيها الاستمرار في الخلافة فخمسة أمور هي :
أحدها - أن تجرح عدالته بأن يصبح ظاهر الفسق.
ثانيها - أن يتحول إلى أنثى أو خنثى مشكل.
ثالثها - أن يجن جنوناً غير مطبق بأن يصحو أحياناً ويجن أحياناً. وفي هذه الحال لا يجوز أن يقام عليه وصي أو يوجد له وكيل لأن عقد الخلافة وقع على شخصه فلا يصح أن يقوم غيره مقامه.
رابعها - العجز عن القيام بأعباء الخلافة لأي سبب من الأسباب، سواء أكان عن نقص أعضاء جسمه أم كان عن مرض عضال يمنعه عن القيام بالعمل ولا يرجى برؤه منه. فالعبرة بعجزه عن القيام بالعمل، وذلك أنه بعجزه عن القيام بالعمل الذي نصب له خليفة تعطلت أمور الدين ومصالح المسلمين. وهذا منكر تجب إزالته ولا يزول إلا بعزله حتى يتأتى إقامة خليفة غيره، فصار عزله في هذه الحال واجباً.
خامسها - القهر الذي يجعله عاجزاً عن التصرف بمصالح المسلمين برأيه وفق الشرع. فإذا قهره قاهر إلى حد أصبح فيه عاجزاً عن رعاية مصالح المسلمين برأيه وحده حسب أحكام الشرع فإنه يعتبر عاجزاً حكماً عن القيام بأعباء الخلافة فيجب عزله. وهذا يتصور واقعه في حالتين :
الحالة الأولى: أن يتسلط عليه فرد أو أفراد من حاشيته فيستبدون بتنفيذ الأمور ويقهرونه ويسيرون برأيهم بحيث يصبح عاجزاً عن مخالفتهم مجبوراً على السير برأيهم. ففي هذه الحال ينظر، فإن كان مأمول الخلاص من تسلطهم خلال مدة قصيرة يمهل هذه المدة القصيرة لإبعادهم والتخلص منهم، فإن فعل زال المانع وذهب العجز وإلا فقد وجب عزله.
الحالة الثانية: أن يصير في حال يشبه فيها المأسور وذلك بوقوعه تحت تسلط عدو، وتحت نفوذه، يسيره كما يشاء ويفقده إرادته في تسيير مصالح المسلمين. ففي هذه الحال ينظر، فإن كان مأمول الفكاك من الوقوع تحت التسلط خلال مدة قصيرة يمهل هذه المدة القصيرة، فإن أمكن فكاكه وتمكن من الخلاص من تسلط العدو، زال المانع وذهب العجز، وإلا فقد وجب عزله.
ففي هذه الأحوال الخمسة يجب عزل الخليفة عند حصول أية حالة منها. إلا أن حصولها يحتاج إلى إثبات أنها حصلت، وإثباته يكون أمام محكمة المظالم فتحكم بفسخ عقد الخلافة وعزل الخليفة، فيعزل ويعقد المسلمون الخلافة لغيره خلال ثلاثة أيام.
نظام الخلافة نظام متميز
هذا البحث ـ بحث الخلافة ـ بحث سياسي، فهو بحث في أعلى منصب من مناصب الحكم، وبالطبع هو بحث في أفكار الحكم. ومن الخطأ الفاحش أن يجعل القارئ غير صدق هذه الأفكار ومطابقتها للواقع مقياساً له لقياس صحتها إن كان قارئها غير مسلم، وغير كتاب الله وسنة رسوله إن كان قارئها مسلماً. وذلك لأن الفكر لا يتخذ لمقياس صحته فكر آخر، إلا إذا كان فرعاً. وإنما يتخذ مقياسه مطابقته للواقع، أو مطابقته لأصله الذي ثبت لديه مطابقته للواقع. ولذلك فإننا ننذر القارئ بضرورة قراءة هذه الأفكار بدقة ووعي على الواقع الذي تعبر عنه، فإنه وهو يلمس أزمة الحكم في العالم الإسلامي [ الشرقيين الأدنى والأوسط وبعض أجزاء الشرق الأقصى ] ويلمس أزمة الحكم في كثير من أجزاء العالم، حريّ به أن يتعرف أفكار الحكم هذه، ليدرك إدراك تدبر أنه وقع على علاج أزمات الحكم في العالم، وعلى العلاج الصحيح الذي لا علاج سواه لحكم البشر ورعاية شؤونهم. لا شك أنه ـ أي القارئ ـ إذا تدبر هذه الأفكار، حاصراً مقياسه في موضوع انطباقها على الواقع، أو انطباق الدليل الشرعي عليها، فإنه سيوقن أنه وقع على العلاج الصادق لحكم الناس.
والذي يخشى منه جعل الديمقراطية مقياساً لصحة هذه الأفكار، أو التأثر بمفاهيمها أثناء القراءة. لأن الديمقراطية شاعت في العالم حتى عم اسمها كمثل أعلى عند جميع الدول والشعوب والأمم، وتبنتها الدول الشرقية بعد تبني جميع الدول الغربية لها مع الاختلاف في مدلولها عندهم. وتأثر بها المسلمون في جملتهم، لا فرق بين من يعتقد أن الخلافة يقيمها المسلمون، ومن يعتقد أن الخليفة قد عينه الله ورسوله، فإنهم جميعاً يقربون آراءهم للناس باسم الديمقراطية، أو ببعض أفكارها. ومن أجل ذلك نكرر إنذار القارئ بأن لا يتخذ في قراءته لهذه الأفكار، أي أفكار غيرها مقياساً، ولا سيما اسم الديمقراطية أو أفكارها. فمثلاً سبق لبعض من بحثوا في الحكم أن شاهدوا أشكالاً من الحكم في البلاد التي يعرفونها، وقرأوا تاريخياً عن أشكال من الحكم. وبالفروض المنطقية كتبوا عن أشكال الحكم، فقالوا: أن الحكم إذا فوض إلى جميع الشعب أو إلى أكبر قسم منه فإنه يطلق على شكل هذا الحكم اسم (الديمقراطية) . وإذا حصر الحكم في يد عدد قليل فإنه يطلق على هذا الشكل من الحكم اسم (الاريستوقراطية) . أما إذا فوض الحكم إلى يد حاكم منفرد يستمد الآخرون كلهم سلطانهم منه فإنه يطلق على هذا الشكل من الحكم اسم (الملكية) . وهم يريدون بالحكم السلطان والتشريع. وعلى هذا الأساس بني تفرع جميع أشكال الحكم. وتفرع عن ذلك أنواع الدول وأنواع الاتحادات بين الدول كما تفرع عنه أنواع الحكومات والانتخابات وحق التصويت، إلى غير ذلك.
فهذه الأفكار هي غير أفكار الحكم بالإسلام كلياً وجزئياً. والمغايرة بينهما كبيرة جداً، لأن نظام الحكم في الإسلام هو نظام خلافة، وهو طراز متميز كل التميز عن أي طراز حكم. فالشريعة التي تطبق في إيجاد الحكم، وفي رعاية شؤون الرعية، وفي العلاقات الخارجية، هي من عند الله تعالى. فليست هي من الشعب، ولا من عدد قليل منه، أو من أي فرد. ولكل فرد ممن يعتنقون الإسلام الحق في فهم هذه الشريعة الفهم الذي يصل إليه من معرفته اللغة العربية والنصوص الشرعية، وله مطلق الحق في حدود اللغة العربية والنصوص الشرعية أن يفهم ما يوصله إليه عقله، ويكون رأيه شريعة في حقه وحق كل من يقبل فهمه ويأخذه، وله أن يحكم به الناس إذا كان حاكماً أو قاضياً. إلا أنه إذا تبنى الخليفة ـ أي رئيس الدولة الإسلامية ـ أي رأي، كان الرأي الذي تبناه الخليفة هو وحده القانون، ووجب على جميع الرعية حينئذ ترك العمل بآرائهم لا ترك آرائهم. فيجب عليهم شرعاً أن يعملوا بالقانون أي بالرأي الذي تبناه الخليفة، وأن يخضعوا له وحده، ولكنهم لا يمنعون من تعليم آرائهم والدعوة إلى الإسلام بها. ويطلق للناس التفكير في الإسلام على الأساس الذي قام عليه وهو العقيدة الإسلامية، فلهم أن يفكروا في التشريع وغيره كما يشاءون، كما لهم أن يفكروا في غير ذلك، على أن يكون ذلك كله منبثقاً عن العقيدة من حيث التشريع، ومبنياً على العقيدة من حيث غير التشريع.
هذا من الناحية التشريعية والفكرية. أما ناحية الحكم فهي غير التشريع، إذ أنها تعني السلطان لا نظام الحكم، لأن نظام الحكم من التشريع، فهو أحكام شرعية. والسلطان قد جعله الشرع للمسلمين جميعاً، أي للأمة، لكل فرد من أفراد الأمة، ذكراً كان أو أنثى. فكل مسلم يملك حق السلطان، ويملك مباشرة هذا الحق كلما اقتضت مباشرته. وبهذا السلطان الذي تملكه الأمة تقيم عليها رجلاً واحداً لينفذ شرع الله، فتبايعه على الكتاب والسنة بيعة رضا واختيار منه ومنها. ويكون من ذلك بينه وبين الأمة عقد خلافة لا عقد إجارة. لأنه عقد لتنفيذ الشرع، لا عقد لخدمتها ولمنفعتها، وإن كان تنفيذ الشرع هو لخدمتها ولمصلحتها لأنه رحمة لها وللعالمين. إلا أن الذي يجب أن يلاحظ في العمل، والذي يجري عليه عقد الخلافة هو تنفيذ الشرع لا منفعة الأمة، فإذا تعارضت منفعتها العاجلة مع الشرع كان الشرع وحده الواجب التنفيذ، ولذلك إذا طلبت ترك حكم شرعي أجبرها الخليفة عليه، وإذا تركت الشرع وجب عليه قتالها حتى ترجع، فهو قد نصب لتنفيذ الشرع ليس غير. وأيضاً فإنه لا حق للأمة بعزل الخليفة كما تشاء، وإنما لها حق عزله في حالات معينة، وينعزل من نفسه ويخرج عن الخلافة في حالات معينة، ويجب قتاله في حالة واحدة هي إذا طبق غير الإسلام. فأمره ليس بيد الأمة وإن كانت هي التي نصبته، وإنما أمره بيد الشرع.
إلا أن السلطان الذي هو حق الأمة لا ينتهي بنصب الخليفة، بل يبقى السلطان لها دائماً، ويكون مظهره في حال وجود الخليفة بمحاسبته على أعماله في تطبيق الشرع، وفي رعاية شؤونها، بالأسلوب الذي تراه، في حدود أحكام الشرع. ويجب عليه أن يخضع لمحاسبتها، وأن يبين لها الحال التي تشكو منها وتحاسبه عليها. حتى لو شهرت السلاح عليه لا يحل له أن يقاتلها حتى يبين لها الشبة التي لديها، ووجه الحق الذي يراه.
هذا هو الحكم في الإسلام، وعلى هذا الأساس يقوم نظام الحكم. وهو لا يتفرع عنه أنواع للدول، بل هو نفسه شكل واحد. فهو نظام وحدة، لا نظام اتحاد. ويوجب إعلان القتال فوراً لحفظ نظام الوحدة، والقضاء على نظام الاتحاد. ولا توجد فيه أنواع للحكومات، بل لا توجد فيه حكومات. فالدولة والحكومة فيه شيء واحد، هو الخليفة والمعاونون. أما ما يتفرع عن ذلك من طريقة نصب الخليفة، ومن ضرورة ضمان الرضا والاختيار لكل مسلم في انتخاب الخليفة وبيعته، والتمكين للأمة فرداً فرداً من هذا الرضا والاختيار، فذلك قد جاءت به أحكام شرعية خاصة فيه، وعامة في كل عقد من العقود، ومنها عقد الخلافة. وهو وإن تشابه مع النظام الديمقراطي من حيث حرية الانتخابات، وحرية التصويت، وحرية القول، ولكنه لا يصح أن يلاحظ هذا الشبه، لأن ذلك في النظام الديمقراطي ناتج عن الحريات، وهنا ناتج عن شروط عقد الخلافة، وشروط كل عقد من العقود. وهو ـ أي الرضا والاختيار ـ إذا لم يتحقق في عقد الخلافة بطل العقد، ولا يكون الخليفة حينئذ خليفة شرعاً.
والفرق بين ضمان الحرية في الانتخابات وبين ضمان تحقق الرضا والاختيار في العقد هو أن الحرية حكم للناس، فإذا لم تتحقق لا تؤثر في صحة العقد، ولكن ضمان الرضا والاختيار هو حكم العقد، وليس حكم الناس. فإذا لم يتحقق فإن العقد يكون باطلاً ولا ينعقد. وهكذا جميع أفكار الإسلام هي مغايرة لأفكار الديمقراطية، وهي في نفس الوقت مغايرة للأرستقراطية والملكية، وبديهياً هي مغايرة للإمبراطورية. فإذا بحثت فيجب أن تبحث باعتبارها نظام حكم متميز عن أي نظام، وباعتبار انطباقها على واقع الحكم، ولكن لا أي حكم، بل على واقع حكم معين هو الحكم الذي يحكم به الإنسان حكماً واقعياً للبشر، على أعظم مستوى من القيم الرفيعة. أو باعتبار الأدلة الشرعية التي استنبطت منها هذه الأفكار في الحكم.
على هذا الأساس نطلب إلى القارئ أن يقرأ هذا البحث السياسي باعتباره بحثاً في نظام حكم متميز عن غيره كل التميز، غير متخذ أي مقياس لصحة أفكاره سوى انطباقها على واقع أسمى نظام من أنظمة الحكم التي يحكم بها البشر، أو انطباقها على الأساس الذي انبثقت عنه وهو كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
(من منشورات حزب التحرير)