بعد أن أجهز النظام المُجرم على كثير من مناطق الثورة، بات الحديث عن معركة إدلب هو حديث الساعة، والقضية الأساسية التي تُقترح لها الحلول، فتخرج أصوات تُطمئن الناس وتعدهم وتمنيهم بأن إدلب ليست كغيرها؛ فهي بحماية النظام التركي الذي زرع نقاط مراقبته على طول الجبهة بين مناطق النظام ومناطق الثوار، تلك النقاط التي لم تمنع طائرات روسيا من أن تنفذ إجرامها بحق أهل الشام متى تشاء!
وأصواتٌ أخرى ترى أن الحل يكمن في تشكيل قوّة عسكرية مخلصة تستلم زمام الأمور بعد إبعاد القيادات الخائنة، لتبادر هذه القوة بالهجوم، ولكن هذه الأصوات تتغافل عن عمل الضفادع والذي سيتركز في مفاوضة الروس في "حميميم" رافعين شعار "حقن الدماء"، معلنين الاستسلام الكامل وإلقاء السلاح، بينما المُقاتلون منشغلون برد العدوان، كما حصل في كثير من المناطق في الشام...
بالتأكيد إن الحديث عن معركة إدلب أمر عظيم إذ تُعتبر هي آخر قلاع الثورة، وبات الجميع يبحث عن حلّ يُنقذ هذه الثورة مما وقعت فيه من براثن المال السياسي القذر، ومن تسلّط قادة ما نصروا إخوانهم حتى ينتصروا لأنفسهم، رضوا أن يُقتّل إخوانهم وهم يتفرجون بل ويقتتلون فيما بينهم، وارتبطوا بأجهزة المخابرات العالمية والإقليمية والتزموا أوامرها فأوقفوا الجبهات ووقعوا في حفرة الهدن والمفاوضات...
وقبل الحديث عن الحل الذي سينقذ الثورة؛ لا بد من إدراك أن دول العالم لم تتآمر على ثورة الشام لأنها طالبت برغيف خبز أو حقيبة وزارية أو إصلاحات دستورية، بل لأنها ثورة أرادت أن تقتلع النظام العلماني الذي يحفظ مصالح الغرب، وتستبدل به نظام الإسلام، ولأن أهل الشام المسلمين رفضوا التبعية وأبوا الدنية في دينهم، وصدحوا بأعلى صوتهم "قائدنا للأبد سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم"، و"لن نركع إلا لله" و"الموت ولا المذلة"، فكان هذا القتل والتدمير والتهجير وكانت هذه التضحيات الجسام التي يستحقها منهم الإسلام العظيم.
ولا بد من إدراك أن ما وصلت إليه الثورة اليوم فيه خيرٌ عظيم، حيث قد تمايزت الصفوف، وسقط كل من ارتبط بالمال السياسي القذر، حتى أولئك الذين رفعوا شعارات الإسلام؛ فقد أوغلوا في دماء المسلمين وفرضوا عليهم الإتاوات ودفعوا الناس لقبول التفاوض والاستسلام، وكذلك أولئك الذين أعلنوا خلافة مزعومة قد تبين أن إعلانهم ما كان إلا لتشويه الخلافة ولإزالة الصورة المشرقة الموجودة في أذهان المسلمين عن الخلافة والخلفاء وخاصة الخلفاء الراشدين؛ وزرع صورة مشوهة بدلا عنها؛ حتى إذا ذكرت الخلافة يتبادر للأذهان الصورة المشوهة فينفر الناس منها ومن العاملين المخلصين لها؛ الذين ما فتئوا يبذلون جهدهم لكشف المؤامرات والتحذير من المال السياسي القذر وخطره، وكشف دور الأنظمة التي ادّعت صداقتها كالنظامين التركي والسعودي وغيرهما...
ولا بد من إدراك أن الأهم من تمايز الصفوف هو تمايز المشاريع؛ المشروع الغربي الذي يحمله جلّ قيادات الفصائل والقوى السياسية؛ ومشروع الخلافة على منهاج النبوة الذي يحمله حزب التحرير، هذا الحزب الذي لم يعتقل الناس ولم يعذبهم بل تعرض شبابه للاعتقال والتعذيب، ولم يجلس مع المخابرات الدولية سواء التركية أو القطرية أو غيرها من مخابرات الدول، ولم يشترك في غرف التآمر "الموك والموم" ولم يدعُ إلى الهدن والمفاوضات بل حذر منها، ولم يشارك في المؤتمرات الدولية بل حذر من خطرها ومن المشاركة فيها، ولم يحرض على الاقتتال الذي حصل بين الفصائل بل على العكس حاول منعه بكل الوسائل المشروعة...
وإذا نظرنا إلى كل المساوئ التي حصلت في الثورة فلن نجد لحزب التحرير يداً فيها، بل سنجده عمل على إزالتها بكل وعي وإخلاص؛ وعي ناتج عن إدراكه لطبيعة الصراع وأهدافه وطريقة تنفيذ هذه الأهداف وأساليب تنفيذها والأدوات المستخدمة في التنفيذ، وإخلاص ناتج عن جعل الإسلام هو محور عمله في عقيدته والأحكام المنبثقة عنها، فهو حزب مبدئي، وهذا يفسر ثباته وعدم تلونه مع متغيرات الواقع، ولهذا حاول الغرب خداعا الاستسخاف بعمل هذا الحزب ﴿إِنَّ هَٰؤُلَاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ﴾ وأطلق ماكينته الإعلامية وكلابه البشرية غير الرسمية لمحاربة هذا الحزب وتشويه صورته والتقليل من شأنه والاستهزاء به...
نعم لا بد من إدراك ذلك كله قبل الحديث عن الحل الذي ينقذ الثورة، حيث يحلم الكثير من الناس أن الحل يكمن بأن تتدخل القوة الإلهية وبشكل مباشر فتقلب الموازين وتحقق الغلبة للمسلمين، والحق أن هذا التدخل ممكن وكائن إن شاء الله ولكنه مشروط، وهذه الشروط كانت للأنبياء والصحابة، وتتلخص اليوم في شروط ثلاثة:
أولها: أن يرفض الناس المشروع المدني العلماني سواء الحليق أو الملتحي، ويتفقون عبر مجالسهم وممثليهم وأفرادهم على تبني مشروع الخلافة على منهاج النبوة الذي أوجبه علينا ربنا سبحانه وتعالى وبشر به رسول الله e؛ وأن يكون هذا الأمر عاجلا فالأمر جلل.
وثانيها: أن تجهر الأمة بهذا المشروع وبكل وسائل الجهر؛ والحقيقة إن الجهر بالخلافة يُعتبر ميثاقاً بين الناس وبين الله، أننا يا رب لا نخشى سواك، فاجعل قوتك سبحانك معنا وانصرنا بنصرك، إن الجهر هو بالضبط معنى ﴿إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ﴾.
وثالثها: مطالبة الأمة عبر مجالسها وممثليها وأفرادها بأن تسلّم قيادة الثورة للقادر على تحمّل هذا المشروع قيادة سياسية، وأن يتقدم العسكريون المخلصون لنصرة هذه القيادة السياسية الواعية والمخلصة.
إن تحقيق هذه الشروط بعد الاتكال على الله القاهر فوق عباده، والثقة بوعده الذي لا يتخلّف، والإيمان بأن العزّة لله ولرسوله وللمؤمنين، إن هذا لكفيل باستحقاق النصر من الله تعالى، وأما اتخاذ موقف الانتظار أو الانخراط في أعمال دفاعية ضمن غرف عمليات لا تتبنى قيادة سياسية واعية مخلصة، فهو تكرار لسيناريوهات الخيانة المتكررة، ووقوع في الفخاخ الظاهرة، وتضييع للتضحيات العظيمة، وهذا ما لا يقبله مؤمن لا يقبل أن يُلدغ من الجحر ذاته مرّتين.
وإنه لمن المؤكد أن الله ناصر دينه لا محالة، وستكون بإذن الله خلافة راشدة على منهاج النبوة كما بشّرنا بها رسول الله e القائل فيما رواه أحمد والطيالسي وغيرهما «...ثُمَّ تَكُونُ خِلَافَةٌ عَلَى مِنْهَاجِ النُّبُوَّةِ». فوجب العمل لها بكل ما أوتينا من قوة وأن نمتلك كافة الأدوات ونبتكر كافة الأساليب وفق طريقة محددة رسمها رسول الله eحتى تنتقل الأمة الإسلامية بمجموعها من عصر الذل والهوان الذي فرضه الحكم الجبري وما نتج عنه من قتل وفقر وانتهاك أعراض إلى عصر العزة والكرامة وما سينتج عنه من سعادة وهناء في ظل حكم الله عز وجل... وفي ذلك فليتنافس المتنافسون.
كتبه لجريدة الراية الأستاذ منير ناصر بتاريخ 25 تموز/يوليو 2018م
المصدر: https://bit.ly/2LiD67v