لعل أساس البلاء في هذه الأمة في هذا العصر الراهن هو الانضباع بالحضارة الغربية، فمنذ الحملة الفرنسية على مصر والأمة الإسلامية تعيش حالة الصدمة النفسية والانهزام النفسي أمام الغرب، وقد تولد عن هذا الانضباع النفسي والهزيمة الفكرية أن حمل كثير من المسلمين مفاهيم الغرب الكافر، وصار يحمل ثقافته بعلم أو بدون علم. وقد وصف الشيخ تقي الدين النبهاني رحمه الله تعالى حال الأمة هذا وصفاً دقيقاً، حيث قال في كتاب الدولة الإسلامية:
"لقد غفل المسلمون عن خطر هذه الثقافة، وصاروا يحاربون المستعمر ويتناولون منه ثقافته، مع أنّها هي سبب استعمارهم، وبها يتركز الاستعمار في بلادهم".
ومن المسائل التي حملها كثير من المسلمين من الغرب هو ثقافة المنفعة، ولكن تم إلباسها لبوساً آخر فسموها المصلحة، مع أن الإسلام أرشدنا إلى أن المنفعة الحقيقية هي باتباع شرع الله تعالى، وليس باتباع المصلحة والمنفعة مهما كانت هذه المنفعة عظيمة، ومهما كانت هذه المصلحة كبيرة، فالله تعالى يقول:
{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} [البقرة: 219]. حيث قال إن هناك منافع للخمر والميسر وليست منفعة واحدة فقط، ومع هذا فقد أخبرنا أن هذه المنافع مهما كثرت ومهما تعددت فإن إثم الخمر والميسر أعظم وأكبر من كل هذه المنافع، فهو يرشدنا إلى أن ننظر إلى الناحية الشرعية، إلى المقياس الأكبر من كل منفعة ومصلحة، هذا المقياس هو مقياس الحلال والحرام وليس مقياس المصلحة والمنفعة. ففي الخمر والميسر منافع، ولكن ليس هذا هو المقياس، فليس المقياس هو ما فيهما من منافع مهما تعددت، وإنما المقياس هو الحلال والحرام، وقد كان هذا هو دأب الصحابة وعلماء الأمة الربانيين، حيث ينظرون إلى الحكم الشرعي وإلى الحلال والحرام، فاتباع الحكم الشرعي هو المنفعة الحقيقية للمسلم وللأمة كلها. ففي سنن أبي داود (5/ 276) عن رافع بن خديج قال: نهى رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلم - عن أمرِ كان لنا نافعاً، وطَوَاعِيَةُ اللهِ ورسوله أنفعُ لنا وأنفعُ.
فانظر كيف اعتبر رافع بن خديج أن طاعة الله ورسوله أنفع من كل منفعة أخرى.
وفي صحيح البخاري (3/ 1150) عن ابن أبي أوفى رضي الله عنهما قال: أصابنا مجاعة ليالي خيبر فلما كان يوم خيبر وقعنا في الحمر الأهلية فانتحرناها، فلما غلت القدور نادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم: أكفئوا القدور فلا تطعموا من لحوم الحمر شيئا، فلو أخذنا بمقياس المنفعة فإن إطعام الجيش الجائع بالحمر الأهلية هو أمر مقبول، ولكن ليس هذا هو المقياس، بل المقياس هو الحلال والحرام، ولو أخذنا بمقياس المنفعة لكان إراقة كل هذه اللحوم يعتبر تبذيرا وإسرافا، ولكن ليس هذا هو المقياس، بل المقياس هو الحلال والحرام.
ولأجل هذا كله كانت القاعدة الشرعية: حيثما يكون الشرع فثم المصلحة.
كتبه للمكتب الإعلامي لحزب التحرير في ولاية سوريا
محمود عبدالرحمن