press

حملة لا لجريمة الحل السياسي نعم لإسقاط النظام وإقامة الخلافة

banner

 

888

 

في زمن التحوّلات الكبرى، ليست الهيمنة العسكرية أخطر ما يُكبِّل الأمم، بل الاستسلام العقلي والنفسي الذي يُقنع الشعوب بأنها ضعيفة، ويُشعرها بأن التغيير رهين رضا العدو أو موافقة الداعم، فيُخدّر الطاقات ويشلّ الإرادات، فيُمكّن للاستضعاف بدل التمهيد للتمكين.

وهذا تحديداً ما يُراد ترسيخه اليوم في بلاد الشام، بعد أن تكسّرت قوى الطغيان وانهارت أركان النظام، وتقدّمت الثورة إلى قلب العاصمة، فإذا بالخطاب المسيطر يعود ليقول "نحن دولة فقيرة، نحتاج دعم الخارج، لسنا قادرين على إدارة أنفسنا...، نحن ضعفاء ولنكن واقعيين ولنقبل بالواقع"!

غير أن الأخطر من مجرد الشعور بالاستضعاف، هو أن يتحول ترويج هذا الشعور وتحويله إلى سياسة ممنهجة تُزرع في الوعي الجمعي لشلّ إرادة التغيير والنهوض.

فهذا النمط من الخطاب الذي نشاهده لم ينشأ من فراغ، بل يُراد له أن يُصبح قاعدة، تغذيه جهات داخلية وخارجية تخشى من وعي الأمة وتحررها وثقتها بقدرتها على التغيير. فكلما اقتربت الأمة من لحظة الإمساك بقرارها، وامتلكت أدوات النهوض، سارعوا لتذكيرها كذباً أنها "غير مؤهلة"، وأن "الواقعية" تقتضي التنازل، وأن "العالم لن يسمح الآن"، وكأنّه سيسمح لهم غداً أو كأنّهم يظنّون أنهم يخدعونه!

وهنا تتحول "المرحلة الانتقالية" إلى عقيدة سياسية جامدة، يتعطّل فيها المشروع، وتُجمد فيها الثروات، وتُكبل فيها القيادة بأوهام الحاجة والعجز، فتزرع الهوان الذي في نفسها في نفوس شعبها.

حين دخل رسول الله ﷺ المدينة لم يطلب الإذن من قريش، ولم ينتظر اعتراف الروم، بل أقام دولة، ووضع دستوراً، وربّى رجالاً، وخاطب الأمم... لأنه كان يحمل مشروعاً عالمياً مبدئياً منبثقاً من الوحي، فاستحق نصر الله.

أما اليوم، فمتى نُدرك أن مشكلتنا ليست ضعفاً حقيقياً إنما هي الوهم المصطنع؟

ومتى ندرك بأنَّ الحاضنة هي جوهر القوة؟

في سوريا، الحاضنة الثورية التي لم تُهزم، بل ما زالت قادرة على العطاء، هذه الحاضنة التي قدّمت أولادها وأموالها ودعمت الثورة في أحلك الظروف، ولكنها بعد سقوط النظام البائد تُعامَل باعتبارها مجرّد جمهور يُراد ضبطه لا تحشيده، يُستحضر حين الحاجة ويُقصى حين الخلاف، وتسعى الإدارة الجديدة للقضاء على روح الثورة والجهاد في نفوس الحاضنة.

متى ندرك أنَّ الدولة تُبنى بالحاضنة لا على حسابها، وبالمشروع لا بالتكتيك، وبقيادة صادقة مبدئية لا بحسابات المناصب والمرحلة؟!

إن من أهم ما يُقوّض النهوض الحقيقي هو أن يُختزل دور الناس في الصمت والانتظار، وأن يُختزل دور القيادة في التنسيق والتكتيك، فيغيب المشروع، ويتقدّم "الإجراء المؤقت" القائم على قاعدة "نحن ضعفاء" ليصير سياسة ثابتة.

إن النهوض لا ينتظر مؤتمراً دولياً، ولا يُصنَع القرار السياسي في قاعات الفنادق، ولا تستجدى الكرامة من عواصم الغرب. فالنهوض قرار ذاتي شجاع، والإقدام إيمان وثبات، والتمكين عطاء من الله لمن صدق وأخلص وثبت.

وهنا لا بد أن نقف لنُميّز بين من ضلّ الطريق تحت وطأة الواقع، ومن انتكس عن الثوابت تحت عباءة الواقعية، فالأول قابل للتصحيح بالحوار والمكاشفة، أما الثاني فمكانه على رصيف الإقصاء السياسي، لا في موقع القيادة.

فمن أراد تمكيناً حقيقياً، فليُعدّ عدته التي تتمثل بمشروع مبدئي، وقيادة واعية، وأمة مجندة، ونظرة إلى الله لا إلى واشنطن أو أنقرة أو الرياض، وثقة بالنفس لا انهزام داخلي وهوان.

فسوريا ليست ضعيفة ولا فقيرة، وهي غنية بثرواتها وطاقاتها المادية والبشرية: نفط، غاز، زراعة، موقع جغرافي نادر، وحاضنة معطاءة، ومع ذلك تُقدَّم على أنها منطقة منكوبة، وكأن الثورة ولّدت فقراً! بينما الفقر جاء من عقود النهب الممنهج على يد نظام أسد والذي ينبغي أن يُزال بزوال أسبابه لا بتلميعها أو الالتفاف حولها.

وهنا تعود على الدوام لتبرز أزمة القيادة الحالية التي تنظر للحاضنة الشعبية كحمل ثقيل لا كخزان قوة، وتحاول احتواء الناس لا الانفتاح عليهم، وكأن التمكين والعمل للتمكين مؤجل حتى إشعار دولي آخر لن يأتي!

إنّ الخطورة لا تكمن فقط في الخطاب الانهزامي، بل في تحوّله إلى مسلمات فكرية تُدرّس وتُكرر وتُشرعن في المؤتمرات والدراسات، حتى يُصبح النقد جريمة لمعارضته للواقع الفاسد وللواقعية التي تتخذ الرضا بفساد الواقع قاعدة لها، وحتى يصير البديل المبدئي طوباوية غير واقعية.

فما أحوجنا اليوم إلى خطاب صريح يحاكم الواقع ويقر بصعوباته ولكن لا يتكيف معه، يفتح أفق الأمة ولكن لا يسجنها في غرف التفاوض، خطاب يُنهي عقلية الانتظار والهوان، ويستبدل بها عقلية الإقدام والعزيمة، ويرفع سقف الثقة بالله لا بسفراء الغرب.

فالتمكين عندنا نحن المسلمين يأتي من الإيمان بالله لا بالأمم المتحدة. وما نعيشه اليوم هو لحظة نادرة في عمر الأمة، لا يجوز أن تُدار بعقلية المستضعف.

من امتلك الأرض، وحرّر العقول، وفضح المشروع الدولي، لا يجوز له أن يعود خطوة بل خطوات للوراء، لأنه بذلك يُفرّط بثمرة الجهاد، ويُعيد إنتاج النظام البائد بشعارات جديدة.

فالواجب ألا ننتظر اعترافاً دولياً أو معونة خارجية، بل نستنبط مشروعنا المنبثق من عقيدتنا، ونعيد اكتشاف ثرواتنا وطاقاتنا. ولا ينبغي أن نبقى في آخر الركب ننتظر قيادة توافقية ونصفق لدروشتها، بل نُفرز قيادة صادقة تحمل مشروعاً مبدئياً دون مساومة.

إن الثورة باعتبارها فكرة راسخة في قلوب الناس لا تزال ذاخرة بالطاقات، والحاضنة لا تزال تنبض بالإيمان، وما على أصحاب العزم إلا أن يشمّروا ويقودوها بصدق وثبات، فاللحظة لحظة نهوض، لا لحظة مساومة، والقرار يجب أن يُصنع هنا، على الأرض، لا هناك في غرف المساومات على يد المندوب السامي باراك!

-------------
بقلم: الأستاذ محمود البكري