
منذ السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023، انطلقت غزة لتسطّر بدمائها وأشلاء أطفالها ملحمةً من أعظم ملاحم الصمود في وجه الطغيان، مواجِهةً كيان يهود المدجج بالسلاح والدعم الغربي، وعلى رأسه الدعم الأمريكي الوقح والمباشر. لم تكن المواجهة متكافئة في العُدة، لكنها كانت متفوقة في العقيدة، فأسقطت غزة أسطورة الجيش الذي لا يُقهر، وفضحت زيف القوة التي طالما روّج لها الإعلام الغربي عداءً والإعلام الرسمي في بلادنا خنوعاً وهواناً، وكشفت أنهم لا يهزمون ليست صفةً حقيقية لعدوٍ جبان، بل وهمٌ زرعته الأنظمة المهزومة في عقول الأمة عن طريق علماء سوء امتهنوا تبرير خنوع وخيانة سلاطينهم نواطير الأنظمة الغربية.
لقد كشفت غزة زيف الشعارات، وأسقطت معها أقنعة الأنظمة القائمة في البلاد الإسلامية التي طالما تاجرت بقضية فلسطين، بينما كانت في الحقيقة حارسةً لحدود كيان يهود، مانعةً لنصرة الأمة، متآمرةً على أهل غزة بالسكوت والتواطؤ، بل وبالمشاركة في الحصار والتضييق، حتى باتت دماء الأطفال تُراق على مرأى ومسمع من حكامٍ لا يملكون إلا بيانات الشجب أو دعوات التهدئة. وفي سوريا، التي هي جزء أصيل من جبهة الصراع، كان نظام آل أسد البائد شريكاً في هذه الخيانة، أما النظام الجديد الذي يراد له أن يكون امتداداً للنظام السابق في حماية كيان يهود وامتداداً للتبعية الدولية التي تهدف إلى إبقاء الشام خاضعة ومقسمة وبعيدة عن نصرة قضايا الأمة الكبرى، فقد أخذ دور المتفرج غافلاً عن حقيقة أن النصر الذي بين يديه هو منّة من الله وليس دعماً من الدول التي امتطت هذه المرحلة وما زالت تعمل بمكر وعلى عجل على صياغة النظام الجديد ليكون جزءاً من عائلة الأنظمة الوظيفية التي تصوغها أمريكا في الشرق الأوسط.
أما أمريكا التي هي أس الداء، فقد أثبتت مرة أخرى أنها العدو الأول للأمة الإسلامية، وأنها لا ترعى إلا مصالحها ومصالح ربيبها المدلل، ولو على جماجم الأبرياء، فطائراتها وأسلحتها وتصريحاتها السياسية كانت كلها في خدمة الاحتلال، بينما كانت تتحدث عن حل الدولتين والتهدئة كغطاء دبلوماسي لتمرير الجرائم وتثبيت اغتصاب الأرض.
لقد سارعت أمريكا لتأمين الجسور الجوية لتمويل كيانها، واستخدمت حق النقض (الفيتو) في مجلس الأمن عشرات المرات ليس لحماية حليف، بل لحماية مشروعها السياسي والعقائدي الهادف لاستئصال أي قوة إسلامية ذات شوكة. إن عداء أمريكا للإسلام هو عداء مبدئي أصيل؛ فهدفها ليس محاربة فصيل هنا أو تنظيم هناك، بل محاربة عودة الإسلام كنظام ودولة. ولذلك، يجب على الأمة أن تدرك جيداً أن استئصال كيان يهود يمر حتماً عبر اجتثاث النفوذ الأمريكي من أرضنا.
وفي ظل هذا التواطؤ، جاءت غزة بعقيدتها الراسخة وثقتها بطاقاتها المستندة إلى هذه العقيدة فأخذت دور طليعة الأمة في هذه الجولة من المعركة المصيرية الحتمية مع الغرب وخطه المتقدم كيان يهود، لتنسف اتفاقيات أوسلو وكامب ديفيد ووادي عربة واتفاقيات أبراهام التي روّج لها ترامب وأغمض عنها حكام الضرار الطَرف، لتقول للأمة إن العدو لا يُهادَن ولا يُسلَّم له شبر، وإن تحرير فلسطين لا يكون إلا بالجهاد، لا بالمفاوضات.
لقد أثبتت غزة أن المعادلة في معركة الأمة مع عدوها ليست معادلة حسابية لأن الله سبحانه وتعالى يؤيد أحد أطراف هذه المعادلة، فأثبتت أن القوة ليست في عدد الطائرات ولا في دقة الصواريخ، بل في العقيدة التي تحرّك الرجال، وفي الإيمان الذي يُفجّر الطاقات، فشبابها المحاصرون منذ أكثر من عقد ونصف واجهوا أعتى آلة عسكرية في المنطقة، فزلزلوا أمنها، وأربكوا حساباتها، وأثبتوا أن الأمة حين تتحرك على أساس الإسلام فإنها قادرة على قلب الموازين. في الوقت الذي كان الواجب على جيوش المسلمين أن تتحرك فوراً لنصرة غزة، لا أن تُقيَّد بأوامر الحكام العملاء، وكان يجب أن تُفتح الحدود ليس لإدخال المساعدات فقط، بل لإدخال الجيوش والعتاد لتحرير فلسطين كاملة (وهذا كان دأب المسلمين عندما استغاثت العامرية بالمعتصم والأندلسية بالسلطان ابن عامر، عندما كان قادة المسلمين أصحاب سيادة وعزة وكرامة).
لقد أعادت عملية طوفان الأقصى إلى الصراع مع يهود حقيقته وجوهره المتمثل بأن الصراع صراع وجود، وفلسطين ليست قضية وطنية بل قضية إسلامية، وأن تحريرها فرضٌ على كل مسلم لا يسقطه تقاعس الحكام ولا خيانة الأنظمة ولا بلادة الجيوش. فالأمة الإسلامية تملك من الطاقات ما يُرعب أعداءها؛ فتعدادها نحو ملياري نسمة، ولديها جيوش جرّارة، وثروات هائلة، وموقع استراتيجي فريد، هذا وهي مكبّلة بأنظمة عميلة تحرس سايكس بيكو وتمنع وحدتها، فكيف إذا أُطلق لها العنان خلف قيادة مخلصة واعية جريئة صاحبة عزة وسيادة تقودها نحو مشروعها الحضاري المتمثل بدولة الخلافة على منهاج النبوة؟!
إن دماء أهل غزة الزكية التي أريقت في حرب الإبادة الأخيرة لم تكن مجرد خسارة في الأرواح، بل كانت صرخة حق قاطعة، وبرهاناً لا يقبل التشكيك، كشفت عن ثلاث حقائق مركزية يجب على الأمة أن تعيها جيداً وهي: حقيقة العدو الكافر، وحقيقة خيانة حكامها وهوانهم، وحقيقة العلاج الأوحد وهو إقامة الخلافة.
لقد أدّت غزة ما عليها، وفضحت الجميع، وأسقطت الأقنعة، وبيّنت أن النصر لا يأتي من أمريكا ولا من الأمم المتحدة، بل من الله عز وجل، يُكرم به أمةً تتحرك على أساس الإسلام، وتُقيم الخلافة، وتُحرر الأقصى، وتُعيد مجدها، ﴿وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِىٌّ عَزِيزٌ﴾.
بقلم: م. علي عبد الرحمن
لجنة الاتصالات المركزية لحزب التحرير في ولاية سوريا
