السؤال:
ورد في كتاب مفاهيم سياسية صفحة 20 الطبعة المعتمدة المؤرخة 1425هـ - 2005م في موضوع الموقف الدولي: "...وأما الدولة التي في الفلك فهي الدولة التي تكون مرتبطة في سياستها الخارجية مع دولة أخرى ارتباط مصلحة لا تبعية، مثل اليابان مع أميركا، وأستراليا مع كل من أميركا وبريطانيا، وكندا مع كل من أميركا وبريطانيا وفرنسا، وتركيا (حالياً) مع بريطانيا وأميركا."
والسؤال هو هل يمكن للدولة التي تدور في الفلك أن تخرج في سياستها الخارجية عن سياسة الدولة الكبرى التي تدور في فلكها؟ فمثلا هل يمكن لتركيا أن تخرج عن السياسة الخارجية لأمريكا في قضية من القضايا كسوريا مثلاً؟
الجواب:
الدولة التي تدور في الفلك ربما تخرج عن فلكها في جزئية من جزئيات السياسة الخارجية لأن ارتباطها ارتباط مصلحة لا ارتباط تبعية، فهي تبحث عن مصلحتها، ولكن يجب ملاحظة عوامل التأثير والضغط لدول الفلك الكبرى عليها والتي تمنعها من الخروج في جزئية من هذه الجزئيات، وقوة هذا المنع أو ضعفه تتوقف على مدى تأثير الدولة الكبرى في وصول الطبقة الحاكمة في الدولة التي تدور في الفلك إلى الحكم، فإن كان تأثير الدولة الكبرى قوياً كان انفكاك الدولة التي تدور في الفلك عن أية جزئية بالغ الصعوبة، وكلما قل تأثير الدول الكبرى كلما كانت الدولة التي تدور في الفلك أقدر على الانفكاك في جزئية أو أكثر من السياسة الخارجية للدولة الكبرى، وسنوضح هذا ببعض الأمثلة، ثم نختمها بموضوع تركيا:
1- اليابان:
إن نظام الحكم والوضع الداخلي فيها مستقر وكذلك مؤسسات الدولة مستقرة فبإمكانها أن تخرج عن جزئية من جزئيات السياسة الخارجية، والدوران في فلك أمريكا دون أن يخاف السياسيون على مصيرهم. إلا أن القيود التي فرضتها عليها أمريكا في نهاية الحرب العالمية الثانية مثل منعها من تطوير أسلحتها الاستراتيجية وخاصة النووية، وكذلك الاتفاقيات الأمنية التي فرضت عليها... إلى جانب الضغوط الأمريكية على اقتصاد اليابان، كل ذلك أوجد لأمريكا تأثيرا في السياسة اليابانية وفي الطبقة الحاكمة وفي الأحزاب السياسية، وخاصة الحزب الديمقراطي الليبرالي الذي حكم اليابان منذ عام 1955 طوال 54 عاما متواصلة إلا فترة بسيطة للحزب الاشتراكي لم تتجاوز شهورا، واستمر في الحكم حتى هزيمته في انتخابات 2009، ومن ثمّ عاد الحزب الديمقراطي الليبرالي مع مؤتلفيه إلى الحكم في نهاية العام الماضي حيث فاز في انتخابات نيابية عامة في 1512، فكل ذلك أوجد تشابكاً بين المصالح الأمريكية وبين المصالح اليابانية، وكذلك تأثيراً أمريكيا قويا في السياسة اليابانية بحيث أصبح من هو في الحكم خائفا من أن يتحرك عكس ما تريده أمريكا أو يخرج عن جزئية من الجزئيات وهو يدور في فلكها، فيخاف من أن تثير أمريكا الأحزاب المعارضة ضده أو أن تثير في وجهه مشاكل اقتصادية ما يؤثر في اقتصاد اليابان فتهتز حكومته أو تسقط. ولذلك فإن اليابان لم تخرج عن الدوران في الفلك الأمريكي في عموم السياسة الخارجية، لكنها كانت تنأى بنفسها عن المشاركة الفعلية في بعض قضايا السياسة الخارجية الأمريكية غير المؤثرة كثيراً... فمثلا رفضت المشاركة في الحرب ضد العراق عام 1991، واكتفت بالمشاركة الرمزية عند احتلال العراق عام 2003، حيث اكتفت اليابان بالمشاركة بألف جندي مساندة للقوات الأمريكية في البحث عما يسمى أسلحة الدمار الشامل، ولكنها قدمت دعما لأمريكا مقداره 13 مليار دولار لتسديد مصاريف الحرب، أي أن اليابان خرجت في بعض الجزئيات إلا أنها كما ترى ليست ذات تأثير كبير...
2- كندا:
إن حكام كندا يراعون مصالح بلادهم ويسيرون مع هذه الدولة أو مع تلك حسب ما يحققها، أو ينأون بأنفسهم عن السير معها عندما لا يرون مصلحة لهم في ذلك. ولكن هناك تأثيراً للدول الثلاث "أمريكا وبريطانيا وفرنسا" التي تدور كندا في فلكها، في السياسة الخارجية الكندية، وفق عوامل تختلف عن اليابان، أي ليست قيوداً عسكرية أو اتفاقيات أمنية... وإنما لعوامل أخرى، فكندا ترتبط ببريطانيا في كومونولثها فنصف السكان من أصول قادمة من بريطانيا، وهي ترتبط بفرنسا بفرانكفونيتها فحوالي 16% من أصول قادمة من فرنسا، وهي مجاورة لأمريكا وتشترك معها في أطول حدود في العالم بدون حماية، فكأنهما متداخلتان، وتشتركان في تجارة حرة كأكبر شريكين تجاريين، فتشتركان في اتفاقية التجارة الحرة منذ عام 1988 وضمتا إليهما المكسيك عام 1992. وانضمت إلى منظمة الدول الأمريكية عام 1990 الواقعة تحت تأثير الولايات المتحدة.
ولأن هذه العوامل أقل تأثيراً من القيود والاتفاقيات كما في اليابان... فإن كندا أكثر قدرة من اليابان على الخروج في جزئياتٍ عن السياسة الخارجية للدول الثلاث، فكندا تحتفظ بعلاقات رسمية مع كوبا ولم تسر مع أمريكا في الحصار عليها ومقاطعتها. ورفضت الاشتراك بجانب أمريكا وبريطانيا في الحرب على العراق عام 2003 فكان موقفها أقرب إلى الموقف الفرنسي... ولكنها لا تخرج عنها في المسائل الكبيرة المؤثرة في السياسة الدولية، ولذلك نراها قد شاركت في حرب أفغانستان بجانب أمريكا ودول الناتو الأخرى وهي عضو مؤسس فيه، وساهمت سابقاً بشكل رئيس بجانب أمريكا في الحرب الكورية بين عامي 1950- 1953. وفي الزمن الأسبق شاركت في الحربين العالميتين الأولى والثانية بجانب بريطانيا... أي أن كندا تدور في فلك هذه الدول الثلاث بسبب العوامل السابقة لكن تأثير تلك الدول ليس قوياً لدرجة تمنع كندا من الانفكاك في جزئيات من السياسة الخارجية للدول الثلاث، ومع ذلك فكما قلنا فهي لا تخرج في قضايا السياسة الدولية المهمة...
3- تركيا:
إن تأثير أمريكا في توصيل الطبقة الحاكمة للحكم قوي، فأردوغان يشعر أنه لم يستطع أن يصل إلى الحكم وتثبيت نفوذه في الداخل إلا بمساعدة أمريكا، فيرى أن مصيره مرتبط بأمريكا التي أصبحت لها سيطرة كبيرة في تركيا بحيث تستطيع أن تتحكم في الحكم والحكام والقضاء والاقتصاد والجيش والأجهزة الأمنية. فغدا اقتصاد تركيا متوقفا على الدعم الأمريكي بفتح باب القروض والتسهيلات الاقتصادية لها، ومن هذه التسهيلات: عدم ضغط صندوق النقد الدولي على حكومة أردوغان كما فعل مع حكومة سلفه أجاويد فأسقطها الصندوق... وعدم طلب الدائنين في أندية البنوك الأجنبية جدولة الديون المتراكمة على تركيا... وعدم قيام مؤسسات التصنيف الدولية الأمريكية من ستاندرز آند بورز مرورا بموديز إلى فيتش بإعطاء نقط سلبية للاقتصاد التركي، بل أعطت هذه المؤسسات نقاطا إيجابية... وكذلك تسهيل الطريق أمام تركيا للحصول على استثمارات في الخارج، وتشجيع دخول الشركات الأجنبية للاستثمار في الداخل. ثم إن أمريكا هي وراء الإنجازات التي حققها أردوغان في الجيش بضرب عملاء الإنجليز ضربة قوية والإتيان برجال يؤيدونه في رئاسة الأركان وهم من المرتبطين بأمريكا، وكذلك الإنجازات التي حققها نحو السيطرة على القضاء، فكل ذلك تم بمساعدة أمريكية. وساعدتها داخلياً في الأمن والمسألة الكردية، فهي كانت وراء قبول حزب العمال الكردستاني لخطة السلام ووقف أعمال التمرد، وذلك لأن أوجلان من عملاء أمريكا وحزب السلام والديمقراطية يتبع خط أوجلان. فالاستقرار الداخلي كان بتعاون عملاء وأصدقاء أمريكا الآخرين معه في الأحزاب والتنظيمات والهيئات الأخرى.
ولهذا فإن تأثير أمريكا قوي على الحكم في تركيا، ومن ثم فإن خروج تركيا في أية جزئية عن السياسة الخارجية الأمريكية هو أمر بالغ الصعوبة، وسنستعرض بعض الوقائع ليتضح كيف التصاق أردوغان بالسياسة الخارجية الأمريكية:
أ- إن أردوغان قبل الثورة السورية قد وثق العلاقة مع نظام بشار عميل الأمريكان إلى حد الصداقة الشخصية والعائلية حتى أصبح يقول أخي وصديقي بشار رغم أن بشار كان يقوم بأعمال إجرامية في داخل لبنان وفي داخل سوريا ذاتها مثل مجزرة سجن صيدنايا عام 2008، فلم ينظر لها أردوغان كمجزرة...! وكان بشار بأجهزته الأمنية والمخابراتية مستمرا في عملية إذلال الناس وإهانتهم، وأردوغان يرى ويسمع، ومع ذلك يستمر في توثيق علاقته مع بشار لأن أمريكا كانت تريد استمرار هذه العلاقة...
ب- وعندما اندلعت الانتفاضة بقي أردوغان يدعم بشار ويسير في حركاته وتصريحاته حسب تحركات الأمريكيين وتصريحاتهم. وعندما طالب مؤخرا بالتدخل العسكري وذهب إلى واشنطن في الزيارة الأخيرة في 1613 نراه قد كف عن المناداة بالتدخل. وعندما دعت أمريكا إلى جنيف 2 لإجراء حوار بين المعارضة والنظام وتشكيل حكومة انتقالية من الطرفين قامت حكومة أردوغان وأعلنت تأييدها لذلك.
ج- وعندما نادت فرنسا بالتدخل في ليبيا بجانب الثوار ضد القذافي رفض أردوغان ذلك وهاجم فرنسا، ولكن عندما قررت أمريكا التدخل هناك قام أردوغان وأيد أمريكا.
د- وعندما أراد أردوغان زيارة غزة في نهاية أيار/ مايو الماضي طلبت منه أمريكا أن يؤجلها، وجاء ذلك على لسان وزير خارجيتها كيري في 2213 بتصريح علني أثناء زيارته لتركيا ما دفع نائب رئيس الوزراء التركي بولنت ارينتج إلى أن يقول: "تصريح السيد كيري (المتعلق بطلبه من رئيس الوزراء تأجيل زيارته لغزة) من المنظور الديبلوماسي والسياسي مستهجن وخاطئ وغير صحيح". (رويترز 2313) وادعى ارينتج قائلا: "الحكومة التركية فقط هي التي تملك الحق في أن تقرر متى وإلى أين يسافر رئيس الوزراء أو أي مسؤول تركي". ولكن هذا القول لم يكن مطابقا للواقع، حيث تناسى رئيس الوزراء أمر زيارته المزمعة لغزة ولم يعد يتحدث عنها، بل عندما ورد على لسان مسؤولين أنه سيقوم بزيارتها في 5 تموز/ يوليو الماضي سارعت مصادر الحكومة التركية لنفي القيام بهذه الزيارة، وذلك امتثالا للأوامر الأمريكية.
فهذه الأمثلة وغيرها تدل على أن تركيا لم تستطع أن تخرج في جزئية من جزئيات السياسة الخارجية عن الفلك الذي تسير فيه. مع العلم أن أردوغان كان يريد من زيارته لغزة تقوية شعبيته التي اهتزت بسبب خذلانه لأهل سوريا بعدما وعدهم بنصرتهم قائلا: "لن نسمح بحماة ثانية..."، فنفذ نظام بشار الإجرامي حماة ثانية وثالثة... في كل مدينة وقرية من دون أن يتحرك أردوغان وحكومته، بل إن النظام السوري أسقط طائرة تركية وأطلق النار على المخيمات السورية في داخل تركيا وعلى قرى تركية وقتل أتراكاً، ولكن أردوغان لم يتحرك، مع أن هذا سبب كاف للتدخل، وكان له الحق في ذلك لو فعل، إلا أن أمريكا منعته من ذلك.
ومن الجدير ذكره أن تركيا لم تعد تدور في فلك بريطانيا بعدما تم توجيه ضربة قوية لقوى الإنجليز في الجيش حيث أُبعِدوا عن رئاسة الأركان وجرت لهم اعتقالات على أعلى المستويات، وما زالوا يقبعون في السجون، وما زالت تجري لهم تصفيات في الجيش، ومن المتوقع أن يجري المزيد منها في بداية الشهر القادم حيث تجري في كل سنة إعادة النظر في الترفيعات أو تجميدها أو الإحالة على التقاعد للضباط. ويشرف على ذلك رئيس الأركان مع قادة الجيوش وبموافقة رئيس الوزراء، أي أن تركيا حاليا تدور في فلك أمريكا، وتأثير أمريكا قوي في شئون تركيا، وإذا استمر الحال على ما هو عليه من ارتباط تركيا القوي بأمريكا، فقد تقترب تركيا من التبعية الكاملة لأمريكا ويصبح دورانها في الفلك محل تساؤل!
21 من رمــضان 1434
الموافق 2013/07/30م
المصدر: المكتب الإعلامي المركزي لحزب التحرير رابط الجواب: http://www.hizb-ut-tahrir.info/info/index.php/contents/entry_27822