المادة 14: الأصـل في الأفـعـال التقيد بالحكم الشرعي، فلا يقام بفعل إلا بعد معـرفـة حكمه، والأصـل في الأشـياء الإباحة ما لم يرد دليل التحريم.
إن المسـلم مأمـور بتسيير أعماله حسب أحكام الشرع، قال تعالى: ((فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ)) [انساء 65]، وقال: ((وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا)) [الحشر 7]. فالأصل في المسلم أن يتقيد بأحكام الشرع.
حكم الإباحة
وفوق ذلك فإن القاعدة الشرعية هي أنه (لا شرع قبل ورود الشرع)، أي لا حكم لأي مسألة قبل ورود حكم الله فيها. فقبل أن يرد حكم الله فيها لا تعطى أي حكم، أي لا تعطى حكم الإباحة. والإباحة حكم شرعي لا بد أن يثبت بخطاب الشارع، وإلا لا تكون حكماً شرعياً؛ لأن الحكم الشرعي هو خطاب الشارع المتعلق بأفعال العباد، فكل ما لم يرد فيه خطاب من الشارع لا يكون حكماً شرعياً، ومن هنا ليست الإباحة هي عدم ورود شيء يحرم، بل الإباحة هي ورود دليل شرعي على المباح، أي ورود التخيير بالفعل وعدمه من الشارع؛ ولهذا يكون الأصل هو التقيد بخطاب الشارع، وليس الأصل هو الإباحة، لأن الإباحة نفسها يحتاج إثبات حكمها إلى خطاب الشارع.
وجوب التقيد بالحكم الشرعي في الأفعال والأشياء
وهذا عام يشمل الأفعال والأشياء. فالمسلم إذا أراد أن يقوم بفعل، أي فعل كان، وجب عليه أن يتقيد بحكم الله في ذلك الفعل، فوجب أن يبحث عنه حتى يعرفه ويتقيد به. وكذلك إذا أراد المسلم أخذ شيء أو إعطاء شيء، أي شيء كان، وجب عليه أن يتقيد بحكم الله في ذلك الشيء، فوجب أن يبحث عنه حتى يعرفه ويتقيد به. هذا هو ما دلت عليه الآيات والأحاديث في منطوقها ومفهومها. فلا يحل لمسلم أن يقوم بأي فعل أو يتصرف تجاه أي شيء على غير الحكم الشرعي، بل يجب أن يتقيد بالحكم الشرعي في أي فعل وفي أي شيء. وبعد أن قال الله تعالى: ((الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا)) [المائدة 3] وقال: ((وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ)) [النحل 89] لم يبق فعل ولا شيء إلا بيّن الله دليل حكمه، ولا يحل لأحد بعد التفقه في هاتين الآيتين أن يذهب إلى أن يكون بعض الأفعال أو بعض الأشياء أو بعض الوقائع خالياً من الحكم الشرعي، على معنى أن الشريعة أهملته إهمالاً مطلقاً بحيث لم تنصب دليلاً أو تضع أمارة تنبه بها المكلف عليه، أي علة تدل المكلف على حكمه هل هو الإيجاب أو الحظر أو الندب أو الكراهة أو الإباحة. فإن هذا القول ومثله طعن في الشريعة الإسلامية. وعليه لا يحل لأحد أن يقول إن هذا الفعل مباح لأنه لم يرد دليل شرعي يتعلق به فالأصل الإباحة إذا لم يرد دليل شرعي، كما لا يحل لأحد أن يقول إن هذا الشيء مباح لأنه لم يرد دليل شرعي يتعلق به فالأصل الإباحة إذا لم يرد دليل شرعي؛ لأنه لا يوجد فعل أو شيء إلا وفي الشرع دليل عليه، فيجب البحث عن حكم الله في الفعل أو الشيء وأخذه لا جعله مباحاً لأنه لا دليل عليه.
الحكم الشرعي على الأفعال
إلا أنه لما كان الحكم الشرعي هو خطاب الشارع المتعلق بأفعال العباد، فإنه يكون قد جاء الخطاب لمعالجة فعل العبد وليس للشيء، وجاء للشيء باعتباره متعلقاً بفعل العبد، فيكون الأصل في الخطاب هو فعل العبد، والشيء جاء تابعاً لفعل العبد سواء أجاء الخطاب للفعل ولم يذكر الشيء مطلقاً مثل: ((كُلُوا وَاشْرَبُوا))[البقرة 60] أم جاء الخطاب للشيء ولم يذكر الفعل مطلقاً مثل:(( حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ)) [المائدة 3]، فإن حكم التحريم في هذه الأشياء الثلاثة إنما هو بالنسبة لتعلقها بفعل العبد المتعلق بها من أكل وبيع وشراء وإجارة وغير ذلك. ومن هنا كان الحكم الشرعي لفعل العبد سواء أكان حكماً للفعل أم حكماً للشيء، ومن هنا جاء أن الأصل في الأفعال التقيد؛ لأن الخطاب إنما هو متعلق بفعل العبد.
الحكم الشرعي على الأشياء
غير أنه تبين باستقراء الأدلة التفصيلية للأحكام الشرعية أن النصوص التي جـاءت أدلة على الأحكام يخـتلف فيها وضع النص الذي هو دليل الفعل عن وضع النص الذي هو دليل الشيء من حيث توجيه الخطاب. فالنص المتعلق بالفعل موجه فيه الخطاب إلى الفعل وحده سواء ذكر معه الشيء أم لم يذكر. فمثلاً :
قوله تعالى:(( وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا))[البقرة 275]،(( قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ)) [التوبة 123]،(( لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ)) [الطلاق 7]، ((فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ)) [البقرة 283]، ((كُلُوا وَاشْرَبُوا)) وقول الرسول صلى الله عليه وآله وسلم: « الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا» متفق عليه من طريق ابن عمر وغيره، « أَعْطُوا الأَجِيرَ أَجْرَهُ» رواه ابن ماجه من طريق ابن عمر والبيهقي من طريق أبي هريرة بإسناد حسنه البغوي، كل هذه النصوص قد وجه فيها الخطاب للفعل ولم يذكر فيها الشيء. ومثلاً قوله تعالى: ((وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا)) [فاطر 12]، ((لِتَأْكُلُوا۟ مِنْهُ لَحْمًۭا)) [النحل 14]، ((وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ)) [يس 33]، ((ِإنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا))[النساء 10]، ((لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ))[يس 35] كلها قد وجه فيها الخطاب للفعل وإن كان قد ذكر فيه الشيء.
ومثل هذا الخطاب المتعلق بفعل العبد مباشرة. وهذا الوضع يختلف عن النص المتعلق بالشيء، فإن الخطاب فيه موجه إلى الشيء وحده، سواء ذكر معه الفعل أم لم يذكر، مثلاً:
قوله تعالى: ((حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ)) [المائدة 3]، ((إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِير)) ِ [النحل 115]، ((وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً))[المؤمنون 18]، ((وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ))[الأنبياء 30] وقوله صلى الله عليه وآله وسلم في ماء البحر: «هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ الْحِلُّ مَيْتَتُهُ» صحيح أخرجه مالك من طريق أبي هريرة، كلها قد وجه الخطاب فيها إلى الشيء ولم يذكـر معه الفعل. ومثلاً قوله تعالى: ((ِإنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ)) [المائدة 90]، ) ((أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ (68))) [الواقعة]، ((أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ (71))) [الواقعة]، ((وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا)) [النحل 67]،(( نسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ (66))) [النحل] كلها قد وجه فيها الخطاب للشيء وإن كان قد ذكر فيه الفعل.
ومثل هذا الخطاب متعلق بالشيء فهو بيان لحكم الشيء، ولكن تعلقه بالشيء إنما هو من حيث بيان حكمه بالنسبة لفعل العبد لا بالنسبة للشيء منفصلاً عن فعل العبد، إذ لا يتأتى أن يكون له حكم إلا بالنسبة لفعل العبد.
وبهذا كله يظهر الاختلاف في وضع النص من حيث توجيه الخطاب. وهذا الاختلاف يدل على أنه وإن كان الحكم الشرعي هو خطاب الشارع المتعلق بأفعال العباد، ولكنه جاءت أحكام خاصة بالأشياء مبيّنة لحكمها مطلقاً، وإن كان حكمها بالنسبة لفعل العبد لا بالنسبة لها منفصلة عن فعل العبد، وهذه الدلالة تبين لنا بالاستقراء أن أحكام الأشياء جاءت بالدليل العام الذي جاء مبيّناً حكم الأفعال، وأن ما جاء خاصاً بالأشياء إنما هو بمثابة استثناء من الحكم العام الذي جاء لها بدليل الأفعال؛ لأن الاستقراء قد تبين منه أن النص الشرعي الموجه فيه الخطاب إلى الفعل مباشرة قد جاء عاماً، فتكون جميع الأشياء المتعلقة به مباحة؛ لأن طلب الفعل أو التخيير كان عاماً يشمل كل شيء، فيكون كل شيء مباحاً بالنسبة إلى هذا الطلب، وتحريم شيء من الأشياء يحتاج إلى نص.
فمثلاً يقول الله تعالى: ((وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ)) [الجاثية 13] وهذا يعني أن الأشياء التي في السموات والتي في الأرض خلقها لنا فهي مباحة، ويقول: ((وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ))[البقرة 168] وهذا يعني أن جميع الأشياء قد أحل الله بيعها وأحل شراءها، فلا يحتاج حل بيع شيء منها إلى دليل؛ لأن الدليل العام يشمل كل شيء، فتحريم بيع شيء منها كالخمر مثلاً يحتاج إلى دليل. وقال تعالى: (( كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا)) [البقرة 168] وهذا يعني أن أكل كل شيء حلال، فلا يحتاج أكل شيء من الأشياء إلى دليل يجعله مباحاً؛ لأن الدليل العام أباحه، وإنما تحريم أكل شيء كالميتة مثلاً يحتاج إلى دليل. وقال تعالى: ((كُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا)) [الأعراف 31] وهذا يعني أن شرب كل شيء مباح، فلا يحتاج شرب شيء من الأشياء إلى دليل يجعله مباحاً؛ لأن الدليل العام أباحه، وإنما تحريم شرب شيء كالمسكر مثلاً يحتاج إلى دليل، وهكذا التكلم والمشي واللعب والشم والاستنشاق والنظر وغير ذلك من أفعال الإنسان قد ورد الدليل العام مبيحاً كل شيء تتعلق به هذه الأفعال، فإباحة أي شيء لا يحتاج إلى دليل، وإنما تحريم أي شيء يتعلق بها هو الذي يحتاج إلى دليل يحرمه، فتكون الأدلة التي جاءت النصوص فيها موجهة إلى الفعل قد بيّنت حكم الأشياء بياناً عاماً ومطلقاً فلا تحتاج إلى نصوص تبيّن أحكامها، فمجيء نصوص خاصة بالأشياء بعد بيان حكمها العام دليل على أن هذه الأحكام الخاصة بها جاءت تستثني حكمها من ذلك الحكم العام. وبهذا تكون نصوص الشرع جاءت مبيّنة الحكم الشرعي في الأشياء بأنها مباحة فهي مباحة، إلا أنه جاءت نصوص تستثنى منها بعض الأحكام فتكون الأشياء مباحة إلا إذا جاء نص يحرمها، ومن هنا كانت القاعدة الشرعية (الأصل في الأشياء الإباحة) وهذه هي أدلة هذه المادة.