لقد عاش المسلمون في الفترة التي أعقبت هدم الخلافة العثمانية مطلع القرن الماضي تحت حكم الدول المستعمرة مباشرة، ثم تحت حكم أنظمة استبدادية ودساتير وضعها الكافر المستعمر قبل مغادرته صورياً، كان من أهم مهامها السهر على عدم عودة الإسلام إلى حياة المسلمين كنظام حياة، إضافة إلى ضمان مصالح الكافر المستعمر على حساب مصالح الأمة.
ومع دخول العقد الثاني من هذا القرن انتفضت الأمة، على شكل ثورات اندلعت في البلاد الإسلامية، قامت على أنظمة الحكم القائمة فيها، التي أذاقت الأمة الويلات وتآمرت ضدها في كل قضاياها، كقضية فلسطين التي فيها بيت المقدس حيث المسجد الأقصى أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين، وقضية أفغانستان والعراق التي شاركت فيها جيوش المسلمين الحرب ضد أبناء الأمة خدمة للكافر المستعمر، الأمر الذي برهن بما لا يدع مجالاً للشك بأن بلاد المسلمين لم تتخلص من الاستعمار إلا شكلاً، وأن خيانة الحكام وتآمرهم ضد أمتهم واضح وضوح الشمس في رابعة النهار، فقد سخروا مقدرات الأمة وثرواتها خدمة لأعداء هذه الأمة من الدول المستعمرة، وقد كانوا رأس حربة في محاربة الإسلام وحملة دعوته.
أما المحرك الأساس لهذه الأمة في انتفاضتها في وجه حكامها فقد كان العقيدة الإسلامية، التي جيشت الناس وجعلتهم يواجهون الدبابات بصدور عارية في منظر لن تراه إلا في هذه الأمة، وقد كان ذلك واضحاً في ثورة الشام المباركة، التي صدحت حناجر المسلمين فيها "قائدنا للأبد سيدنا محمد"، فقد التف الناس حول مشروع الأمة، مشروع الإسلام العظيم الذي تعتز الأمة به وحده.
لكن الرعب والهلع انتاب دول الكفر عندما رأوا هذه الثورات تنتقل من بلد إلى آخر، فقد أدركوا تمام الإدراك بأن انتصار هذه الثورات وخلع حكامها، هو قضية حياة أو موت بالنسبة للكافر المستعمر، وبنجاحها سيتم اجتثاث نفوذ دول الكفر تماماً، لهذا شددوا القبضة على أهل القوة والمنعة من الأمة "قادة الجيوش"، لأنهم حماة الحكام والأنظمة، وهكذا حصل في تونس ومصر وغيرهما من بلاد المسلمين.
بينما في الشام "حيث تدور رحى يوم بعاث مرة أخرى فقد أصبح جيش النظام متهالكاً" سارعت دول الكفر لاحتواء قادة الفصائل المقاتلة عبر تشكيل غرفتي "الموك والموم" بأوامر أمريكية وإدارة مخابرات الأنظمة العميلة، حيث تم تقييد قادة الفصائل بالمال السياسي القذر بل القاتل الذي كان سبباً أساسياً في حرف بوصلة الفصائل، ثم تم سوق البعض منهم إلى جنيف و أستانة و الرياض وغيرها وتوقيعهم على بيع التضحيات الجسام التي ضحى بها أهل الشام على مدى سبع سنوات خدمة لمصالح دول الكفر، فجُمِّدت الجبهات مع النظام للمحافظة على ما تبقى من قواته، واشتعلت نار الفتنة بين الفصائل وحدث الاقتتال الحرام بينها، وسُلمت مناطق بمعارك شكلية للنظام كما حدث في حلب ومناطق حوض الفرات وأرياف درعا ودمشق وحمص ومؤخراً في ريفي حماة وإدلب!
فإن ما حدث ويحدث في ريف إدلب مؤخراً لهو دليل واضح على انقياد قادة الفصائل لأوامر دول الكفر وأتباعهم من حكام المسلمين المجرمين، كما هو تنفيذ لما فُرض عليهم في مؤامرات جنيف وأستانة وغيرهما، فقد بدت قوات النظام تسير وتحتل القرى والبلدات وتشرد أهلها بدون مقاومة، وعندما تنادى بعض المخلصين لصد قوات النظام المتهالكة، رأينا كيف تم دحر قوات النظام ورأينا العشرات من أسرى النظام يساقون كالنعاج!
كما إن ما حدث في حرستا ليس بعيداً عن مركز دمشق حيث استطاعت مجموعة غير كبيرة من المجاهدين دحر قوات النظام والاستيلاء على إحدى قلاعه المهمة التي "عجزت" عن تحقيق أي تقدم فيها كبرى الفصائل في المنطقة سابقاً، لهو دليل آخر على ما نقول من اصطفاف قادة الفصائل الكبرى في الطرف المقابل للأمة ومصالحها!
فمتى سيعلم هؤلاء القادة أن ارتباطهم بأجهزة مخابرات الأنظمة الحاكمة في البلاد الإسلامية ومن خلفها الكافر المستعمر، هو المهلكة بعينها في الدنيا، والحسرة والندامة والخسران في الآخرة؟!
ومتى سيعلم هؤلاء بأن هذه الدول وعلى رأسها أمريكا لن تقبل من أتباعها ولن ترضى عنهم ولو سلموها البلاد والخيرات وأمضوا أعمارهم في خدمتها؟ فها هو قائد الجيش الباكستاني قمر جاويد باجوا يقول بأن باكستان تشعر بالغدر إزاء اتهام الرئيس الأمريكي لباكستان بالكذب والخداع بالرغم من أن النظام والجيش الباكستاني أنفق المليارات لإرضاء العم سام في محاربته للإرهاب!! فهل سيكون قادة الفصائل أحسن حالاً؟؟ والله سبحانه يقول: ﴿وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ﴾.
فإلى متى سيبقى هؤلاء القادة مُصطفِّين إلى جانب أعداء أمتهم؟؟ ألم يقرؤوا قول الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنصَارَ اللَّهِ﴾؟؟
أليس فيهم من يعيد أمجاد السعدين "سعد بن معاذ وسعد بن عبادة رضي الله عنهما" فينصروا مشروع الإسلام العظيم ويعيدوا سيرة الأنصار رضي الله عنهم؟؟
ومن الجدير ذكره أن سعد بن معاذ رضي الله عنه لم يهتز لوفاته عرش الرحمن لكثرة عبادة أو صوم أو صلاة، بل لمواقفه الحاسمة في نصرة الإسلام والمسلمين وهو قائد قومه وزعيمهم!!
ونريد أن نذكرهم ﴿فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ المُؤْمِنِينَ﴾ نذكرهم بحقيقة بات أصغر من في الشام يعرفها، بأنهم لو رجعوا إلى صف أمتهم وعملوا على نصرتها، متوكلين على الله ومخلصين له النية، طالبين نصره، مكتفين بما بين أيديهم من عدة وعتاد، فاتحين جبهات دمشق وحوران والجولان وحماة وإدلب والساحل وحلب فإن النظام لن يتحمل المواجهة إلا ساعات وينتهي في عقر داره في دمشق، فيريحوا البلاد والعباد من هذا النظام وظلمه، ويعملوا على نصرة حملة مشروع الإسلام العظيم، كما فعل ذلك الأنصار في المدينة المنورة، عندما نصروا المشروع الذي جاء به النبي ﷺ وكان لهم شرف إقامة أول دولة حكمت بالإسلام وعاش في ظلالها الناس كل الناس بأمنٍ وأمانٍ وعدلِ شريعة الرحمن، وانطلقوا حاملين هذه الرسالة إلى العالم فنالوا السعادة في الدارين.
ونذكرهم كذلك بأن الله لا بد ناصر دينه، فقد وعدنا سبحانه ووعده الحق، وعدنا بالاستخلاف والتمكين والأمن حيث قال تعالى: ﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَىٰ لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَٰلِكَ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾.
وبشرنا رسولنا الكريم ﷺ بعد الحكم الجبري «ثُمَّ تَكُونُ خِلَافَةٌ عَلَى مِنْهَاجِ النُّبُوَّةِ» وقد آن أوانها، وما يحدث في الأمة من حركة واعية على المشروع الإسلامي لهي دلالة واضحة على دنو عهدها إن شاء الله، فمتى سينحاز أهل القوة والمنعة من هذه الأمة إلى صف أمتهم وينصرون مشروع دينهم العظيم فينالوا بذلك رضا رب العالمين وإلا ستجري عليهم سنة الله سبحانه ﴿وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ﴾.
كتبه لجريدة الراية: د. محمد الحوراني، عضو لجنة الاتصالات المركزية لحزب التحرير - ولاية سوريا، بتاريخ الأربعاء 17 كانون الثاني/يناير 2018م
المصدر: http://bit.ly/2D7EKAH