لم يختلف حال حوران ما قبل الثورة عن كثير من مناطق سوريا، فقد كانت "حوران الأسد" كما هي سوريا وكما يرغب الشبيحة وأزلامهم أن يسموها، فقد كانت تعيش تحت منظومة متنوعة أمنية وعسكرية واقتصادية، منطقة تعيش في ظل الدولة البوليسية وتطبق فيها كل مخرجات هذه الدولة الوظيفية؛ هذا ظاهرها وكما يرغب الأسد وأزلامه أن يروه منها. وتحت هذا المشهد المصطنع وهذه المشاعر المصطنعة يعيش غضباً يتجاوز عمره الأربعين سنة ضجر من ممارسات أزلام النظام وما يحملون من أفكار وما يطبقون من نظم ويفرضون من قوانين...
حدث طارئ بأنْ يسّر الله أطفالاً ربما في حالة لعب وتقليد ولكن كانوا ضمن دائرة قضاء الله وليقضي أمرا كان مفعولا. فخرج أهل درعا المدينة عن بكرة أبيهم مطالبين بحقوقهم التي لم تتعد الحرية والكرامة، قوبلت هذه المطالب بالقمع والاضطهاد من النظام؛ وسعى النظام جاهدا لاحتواء درعا فعزلها عن محيطها المحلي ابتداء ثم عن محيطها الإقليمي إن صح القول، وأخذ يمارس فيها كل أنواع الفساد، وبما أن الأمر كما قلنا ضمن دائرة قضاء الله وأنه ليقضي أمرا كان مفعولا؛ لم تترك مدن وقرى وبلدات درعا عاصمتها تواجه الأسد وحدها، وفي خطوة واعية ثارت وساندتها بتحركات قطعة واحدة ولم تتركها قاصية ليستفرد الذئب بها فتكون طعاما سائغا له.
مع تحرك حوران كقطعة واحدة ضاعت قوة السفاح وتشتتت ولم تعد قادرة على مواجهة الأحداث التي تطورت بشكل ملحوظ وواضح، حتى شملت كل إقليم الشام بمدنه وقراه وبلداته في ثورة لم يعرف التاريخ أشرف منها، تطورت مبادئها ومطالبها وارتقت يوما بعد يوم رغم المحاولات الكثيرة لتحجيمها باستخدام جل الوسائل المملوكة من إعلام لتلويث فكري وتدمير ممنهج؛ بقيت على حالها ونموها وسنة الله فيها ماضية من تمييز وتمايز وكشف وفضح حتى لازمها اسم الثورة الكاشفة الفاضحة لأنها كشفت أعتى المخادعين والماكرين وأسقطتهم.
تعاقب عليها لأجل احتوائها الكثير فقد تعددت الأستانات وتمخضت عنها المقررات وانساق لها ضعاف النفوس وأراذل الثورة من قادة تعساء باعوا دينهم بعرض من الدنيا قليل، ومن خلفهم حساسين تاجروا بالدين واستنفعوا به لأجل لعاعة لا تسمن ولا تغني من جوع، وكان في صفهم رجالات ادعت أنها من أهل السياسة لا يختلفون عن السفاح بأن باعوا حريتهم لأجل عبودية أمريكا وأشياعها، كانت الثورة على الأرض تقوم بأهم مهامها بالكشف والإسقاط والتمايز.
لعل القول ألا خضوع حصل على الأرض هو ضربُ وهمٍ، فقد نجحت مقررات أستانة في أن تفرض على التشكيلات والفصائل ومررت ليصبح ديدن حديث مدّعي السياسة ليرجوها فيلزموا بها أهل الشام؛ فمنذ أستانة الذل والعار اختلف الوضع العسكري على الأرض اختلافاً جذريا فبدأت مسيرة التقهقر والانحسار... فالمناطق التي كانت تحت سيطرة الفصائل بيعت للداعمين ومقررات مؤتمراتهم؛ فبيع جزء من إدلب والغوطة من بعدها تبعها المخيم وتلاه القلمون وريف حمص الشمالي فلم يبق بمحيط دمشق القريب أي خطر يتهدد وكر الأفعى، لم تسقط المناطق عن عجز عتاد، فالصور والتقارير بعدها أوضحت حجم العتاد، بل سقطت بنقص عدة للفصائل فقد تركت الله والالتجاء إليه وركنت للذين ظلموا فمسهم منهم ما مسهم فسقطوا وأفضوا بأنفسهم إلى هاوية سحيقة حتى يقال فيما بعد إن أمراء وقادة وشرعيين تلاعبوا بدين الله إرضاء للكفرة والظالمين غايتهم مكاسب دنيوية لا تغني شفاعتها عند الله وسيردون بإذنه سبحانه إلى أشد العذاب بعد أن خانوا الله ورسوله وخذلوا المسلمين بفعلهم، فجعلوا للكافرين محط مكر في الثورة وبدأ سرطانهم ينتشر محاولا أن يشمل جسد الثورة كله فيصيبها في مقتل العودة لحضن الظلام كما كانت في سالف عصرها.
ولعل الناظر لسير الثورة المتتبع لتفاصيلها يقول ما أشبه اليوم بالأمس؛ فحوران التي كانت شرارة الثورة منها ومن أرضها انطلقت، عادت للمشهد من جديد، فهل هي عودة على ذي بدء أم أن مسير الظلاميين مستمر بأن يتم دثرها ودفنها في منبتها الأول؟ أم يكون لها كلمة بعد أن مرت على النار التي أشعلتها في نظام أمريكا ثماني سنوات مليئة بالأحداث كشفت الستار عن أدق التفاصيل؛ حوران اليوم يمكن القول إنها وحيدة في صورة المشهد تمارس عليها اليوم تهديدات عدة من كل دول العالم التي تداعت عليها؛ فمن يهود الذين يصرحون بأن لا حرج عندهم من دخول قوات الظلام لمناطق أنارتها الثورة بنورها، إلى العدو الروسي الغاشم وتصريحاته بدخول دببه لمناطق حوران للإشراف والفصل للوصول لتطمين أمريكا بأن لا معارك؛ والكل يعلم كذب أمريكا ودورها في إجهاض الثورة منذ بداية زيارة سفيرها فورد لحماة وسعيه لإجهاض تجمعها حتى الوصول لدورها بتغطية جرائم الأسد الكيميائية وإنقاذه منها، إلى الوصول لتصريحات حكومة الأردن العميلة بأن المعابر وجب أن تتسلمها قوات الأسد وتشرف عليها، حتى الحديث عن دعوات لدخول قوات فصل أردنية مصرية...؛ كمية كبيرة من التصريحات تبث ليس وراءها سوى تشتيت أذهان الناس وجعلهم في حالة ضياع عما يجب عليهم القيام به ومن بعدها تمرير الحل الذي يرونه ويسعون له، يشابه تماما ما كانت تروج له الأجهزة الأمنية زمن الدولة القمعية حين تسعى لتمرير قانون على الناس.
كل الضغوط اليوم تمارس على حوران وأهلها وما أشبه اليوم بالأمس، فهذا كان جزءا من ممارسات نظام الإجرام في بداية الثورة ضدها وكان من أمر الله أن يحدث اليوم من حوران تجاه هذه الضغوط ما حصل بالأمس؛ فقد برق شعاع أمل ليوحد حوران تحت مظلة رأي واحد من قلب درعا البلد، درعا الموت ولا المذلة، درعا الكرامة، فقد خرج أهلها في مظاهرة وتكلم وجهاؤها بكلمات تفهم الأسد ما هي حوران وكيف نضج الوعي عندهم، وما كان من قرى وبلدات حوران أن بادرت الخير مع عاصمتها بالخير فأيدت بيانها وما طرحه وجهاؤها وساندتهم في رأيهم انطلاقاً من التزامهم بحديث نبيهم عليه الصلاة والسلام أن الذئب لا يأكل من الغنم إلا القاصية، فلم يتركوا درعا لتواجه وحدها بل التفوا حولها كما بداية الثورة وأظهروا للعالم أن رأينا واحد قد تبلور وأن ألاعيبكم مكشوفة ومسرحيتكم واضحة فارجعوا خائبين خاسرين، فألعابكم مكشوفة وثورة الشام اختصت ببث الوعي بين صفوف المسلمين ولا موطئ قدم لكم اليوم في صفوف الثورة الكاشفة الفاضحة.
وإلى أهلنا في الشام! قد يظن ظان أن الثورة اليوم في أيامها الأخيرة مستخلصا ذلك من حجم المساحة التي تمتلكها، فهذه نظرة قاصرة فالثورة فكرة وفي حال خرجت وتبلورت لم يكن للأرض والمساحة فيها عبرة، فهي قد تستعيد ذلك في لحظات، فالأصل موجود ومقوماته حاضرة وهو أن النصر بيد الله سبحانه لا يحتاج إلا لوقوف على أمره والالتزام بشرعته وحينها يتنزل علينا النصر، فالثورة لم تقم لأجل تحرير أرض وتوسيع مساحتها وفي حال لم يتحقق ذلك فشلت، بل قامت الثورة فكرية لتهدم فكراً فاسداً بكل مقوماته ومخرجاته ومؤسساته لتوجد بديلا عنه فكرا نقيا صافيا يعم الخير من خلاله على جميع المسلمين ويعم الأمن والأمان. ﴿الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُواْ رِضْوَانَ اللّهِ وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ﴾.
كتبه لجريدة الراية: الأستاذ عبدو الدلي (أبو المنذر) بتاريخ 13 حزيران/يونيو 2018م
المصدر: https://goo.gl/8HTqqf