شهدت مناطق الساحل السوري حالة تصعيد عسكري كبير بدأت بتاريخ 6/3/2025م، وتمثلت بمجموعة من الهجمات المنظمة والمتزامنة على نطاق جغرافي واسع استهدفت قوى الجيش والأمن المنتشرة في المنطقة، نفذها فلول نظام الطاغية أسد وطائفته، التي كانت تسيطر على مفاصل الجيش والمخابرات في فترة عهده وعهد أبيه من قبل.
ورغم العدد الكبير من الشهداء الذين سقطوا خلال هذه الهجمات، إلا أن مجرمي الفلول فشلوا في السيطرة على المنطقة لأسباب عدة أهمها؛ الانتفاضة الثورية العارمة التي حصلت في عموم المدن السورية وما أعقبها من توجه عشرات الآلاف من المتطوعين بسلاحهم لمؤازرة القوات العسكرية هناك، وهذا ما ساعد على كسر شوكتهم وتكبدهم خسائر كبيرة جعلتهم ينكفئون من مراكز سيطرتهم إلى الجبال من جديد، لكن عمليات قطع الطرقات والكمائن لم تتوقف بعد ويبدو أنها ستستمر لأجل طويل في ظل الطبيعة الجغرافية للمنطقة والإجراءات الحكومية المترددة في التعامل معهم.
في السياق ذاته، سبق هذه التطورات بأيام قليلة تصاعد التوترات بين إدارة المرحلة والدروز في الجنوب (السويداء)، كما ترافقت أحداث 6/3 مع مظاهرة وسط مدينة السويداء ضد الإدارة الجديدة بالتزامن مع طرد المحافظ واستبدال علم الطائفة بالعلم الموجود على مبنى المحافظة.
كما تم في 24/2/2025م الإعلان عن تأسيس مجلس عسكري في السويداء ذات الأغلبية الدرزية ليكون أحد القوى العاملة هناك، لكن اللافت فيه هو ما أشارت إليه تقارير من تنسيق بينه وبين قوات سوريا الديمقراطية العاملة شمال شرق سوريا، حيث ظهرت بعض الدلالات على هذا التنسيق خلال العروض العسكرية التي نظمها المجلس، كرفع المشاركين أعلاماً مشابهة لتلك التي تستخدمها "قسد"، بالإضافة لتصريحات عدة من كيان يهود عن تقديم الحماية للدروز في السويداء. فقد كشف تقرير لصحيفة وول ستريت جورنال عن أن كيان يهود يسعى إلى إقناع دروز سوريا برفض الحكومة الجديدة والمطالبة بحكم ذاتي ضمن نظام فيدرالي، وأن الكيان يخطط لإنفاق أكثر من مليار دولار لتحقيق هذا الهدف.
إن تزاحم هذه الأحداث وتزامنها دفع كثيرا من المراقبين للمشهد إلى الربط بينها، وخرجت بعض التقارير تتكلم عن فشل انقلاب كان مخططاً له من العلويين في الساحل والدروز في الجنوب وقسد في الشرق مع غطاء جوي من كيان يهود. إلا أن هذا الكلام فيه مبالغة وبعيد عن الواقع حالياً حيث لم ينضج هكذا تناغم بعد وإن كانت بذوره الخبيثة واضحة.
كما أن الحركة التي حصلت في 6/3/2025 كانت حركة غير مدروسة الأبعاد، فكانت لها ارتدادات سلبية على خصوم الثورة وارتدادات إيجابية على المسلمين في سوريا رغم صعوبتها، فقد عادت بنتائج مبشرة، منها أنها أثارت مشاعر الحاضنة الثورية من جديد وأعادت تعبئتها بشكل كبير، كما أعطت للناس درساً يقضي بضرورة التمسك بالسلاح وعدم الانسياق مع ما تطرحه الإدارة الحالية حول حصر السلاح بيد الدولة، بالإضافة لتعزيز الهوية الإسلامية في وجه هذه التحركات، لذا رأينا معظم هذه المناطق ترفع لواء رسول الله ﷺ كرمز لها.
أما على صعيد المكر الخارجي، فإن أمريكا لا شك تدرك قوة وزخم الحاضنة الشعبية المنتصرة، وقد خبرت خلال السنوات الماضية قوة الثورة وعزيمة أهلها وحجم التضحيات الضخمة التي قدموها للوصول للنصر الذي تحقق وبالتالي ما نتج عنه من انتعاش النفوس واتقاد الهمة بعد سنوات طويلة من الضغط. هذا كله يجعل توجه أمريكا خلال هذه الفترة يرتكز على مسايرة هذا الواقع من خلال دعم الإدارة الحالية هذه الفترة ورسم الخطوات لها رغم أنها ليست الخيار المفضل للمستقبل بالنسبة لها، إلا أنها الخيار الأفضل في هذا الحين لضبط المرحلة وتنفيذ عدد من الخطوات الهامة منها حصر السلاح وضبط المقاتلين على الأرض. ولذلك سارعت الدول لفتح العلاقات معها ودعمها سياسياً كونها معتمدة للمرحلة القريبة القادمة. لذا فإن الكلام عن كون ما حدث محاولة انقلابية منسقة ومخطط لها بين أطراف عدة هو كلام مبالغ فيه.
أما ما تسعى له أمريكا بخصوص القوى الأخرى في سوريا فيبدو أنها تريد المحافظة عليها من خلال ممارسة الضغط على قيادة المرحلة حتى لا يكون هناك حسم مع تلك القوى يفضي لإنهاء وجودها. لذلك نرى الضبابية في المواقف من كلا الطرفين. من ناحية تبدي تلك القوى استعدادها للانخراط ضمن صفوف الجيش ولكنها لا تقبل التخلي عن استقلاليتها وكذلك نرى مواقف رخوة تجاه تعنت تلك القوى حتى الآن. فمثلا بالنسبة لقوات سوريا الديمقراطية التي تدعمها أمريكا في شرق الفرات فإن التقارير والتحليلات الحديثة تشير إلى أن الولايات المتحدة لم "ترفع يدها" عن قسد بشكل نهائي، وإنما يبدو أن سياستها تتجه نحو إعادة تقييم دورها في سوريا، وذلك في ظل التغيرات الميدانية والسياسية بعد سقوط أسد، حيث تظهر الآن مؤشرات على أن أمريكا قد تُفضل تنسيق جهودها مع الحكومة السورية الجديدة لتولي مسؤوليات أكبر في المناطق الشمالية والشرقية. لكن هذا التوجه لا يعني قبولها لحل قسد أو إنهائها ككيان مستقل، بل يُعبّر عن رغبة في انتقال تدريجي نحو نموذج أمني يشمل دمج بعض عناصر قسد ضمن إطار "وطني" أوسع تقوده دمشق.
وفي الجنوب كذلك يدفع كيان يهود بقوة باتجاه ضمان استقلالية للدروز، أما العلويون فسيبقون قنابل موقوتة يمكن استخدامهم في أي وقت. هذه القوى وغيرها تريد أمريكا إبقاء وجودها لتلعب دورا مستقبلياً حين تتيسر الظروف التي تساعد في سحب البساط من تحت أقدام أهل الشام لتنقلب على نصرهم بعد أن تهيئ الأرضية لذلك. لكن هذا الطريق غير ممهد لها تماماً فالنصر الذي فُرض عليها بعد سنوات طويلة من المكر نسف جهوداً ضخمة حاولت فيها إخضاع أهل الشام وكسر إرادتهم، إلا أنهم صبروا وبذلوا، فتولاهم الله برحمته وانقلب السحر على الساحر، وتلا ذلك فيما بعد واقع معقد من الصعب جدا لملمته. نسأل الله أن يكون ذلك مقدمة لاكتمال نصر أهل الشام بإقامة دولة الإسلام الخلافة، وتحرير بيت المقدس عاجلاً غير آجل إن شاء الله.
----------------
بقلم: الأستاذ محمد يمان
المصدر: https://tinyurl.com/4hhcvrzd