- التفاصيل
بتاريخ 12/8/2025م، شهدت العاصمة الأردنية عمّان اجتماعاً ثلاثياً ضمّ الأردن وسوريا وأمريكا، بحضور وزيري خارجية سوريا أسعد الشيباني، والأردن أيمن الصفدي، ومبعوث أمريكا الخاص توم باراك، وذلك في إطار ما سُمّي بمحاولة "احتواء أزمة السويداء ودعم استقرار سوريا". غير أن هذا الاجتماع، وما سبقه من أحداث في السويداء من اشتباكات مسلحة، وغارات لكيان يهود على دمشق ومحيطها، وانتهاكات واسعة بحق أبناء العشائر والبدو، يؤكد أن الغاية الحقيقية ليست الاستقرار، بل هي تثبيت نفوذ أمريكا وفرض حلول على الأرض تُرضي أعداء الأمة وتُقصي صوت الحاضنة.
فبعد إعلان وقف إطلاق النار في السويداء، إثر صدامات بين فصائل تتبع ليهود بشكل مباشر والعشائر، ووسط تصعيد مباشر ليهود عبر القصف الجوي، جاءت سلسلة اجتماعات منها في باريس وآخرها اجتماع الأردن الثلاثي حاملاً رسالة واضحة ومفهومة بأن مصير سوريا يُدار في الغرف المغلقة، بإشراف أمريكي ورعاية إقليمية، وأن كل ما جرى من أحداث مضت وآخرها حدث السويداء ليس سوى ورقة ضغط في مسرحية دولية قذرة.
لقد صوّر الإعلام الرسمي اللقاء على أنه "خطوة نحو إعادة البناء وضمان السيادة"، بينما الحقيقة أن الأطراف المشاركة لم تطرح إلا حلولاً تخدم بقاء نفوذ أمريكا ويهود، وتكرّس واقع التبعية، وتبعد الدولة عن ممارسة سلطتها الحقيقية. ويكفي أن التحليلات الأردنية نفسها نبّهت إلى أن استمرار النزاع في الجنوب يشكّل تهديداً مباشراً لحدود الأردن، وأن انهيار الدولة السورية ليس في مصلحة هذا البلد، ما يعني أن الاجتماع جاء أولاً وأخيراً لحماية الأردن وأمن الكيان الغاصب.
إن حضور أمريكا المباشر للقاء وفرضها خطتها تحت ذريعة "وقف الاقتتال"، يفضح حقيقة دورها الذي طالما كان محركاً للأحداث في سوريا، واجتماع عمّان هذا هو حلقة جديدة في هذا المسار، لتثبيت نفوذها وتهيئة الأرضية للتطبيع مع الكيان الغاصب عبر الموافقة على اتفاق أبراهام.
إن المتابع لتفاصيل ما جرى يدرك جملة من الحقائق التي يجب التوقف عندها، منها:
أولاً: أن كيان يهود طرف رئيسي في المشهد، يستثمر في أي موقف ويغذيه ليحصّل مكاسبه التي يصرح حولها كل حين، وبالتالي أي اجتماع يتجاهل هذا الدور أو يتعامى عنه، هو عملياً تواطؤ معه وتثبيت لعدوانه.
ثانياً: الاجتماع الثلاثي جاء ليعيد إنتاج الوصاية الدولية على سوريا، حيث يُفرض على الحكومة الانتقالية القبول بترتيبات أمنية وسياسية تحت عين أمريكا، بما يشمل إدارة ملف الجنوب والتعامل مع الفصائل المحلية - أزلام يهود - بوصفها شريكاً سياسياً، رغم جرائمها المروعة بحق العشائر، وهذا بحد ذاته خيانة لدماء الأبرياء، وشرعنة للبؤر الانفصالية التي تتقوّى بالعدو.
ثالثاً: ما يتم طرحه من خطر تفكك سوريا ونشوء دويلات متعددة في الجنوب وغيرها هو لأجل الضغط للقبول بأي خطة حل، وضمان إبقاء الكيان الغاصب آمناً. فالتذرع بحماية الدروز لم يكن إلا غطاء لتدخل يهود المباشر، وتقديم الفصائل الانفصالية كبديل عن الدولة، وكل ذلك ليس حباً بأحد ولكن لأجل تحصيل ضمانات والدفع لتوقيع التزامات تضمن سلامة كيان يهود.
رابعاً: ما سُمّي بإعادة الإعمار وعودة اللاجئين ليست سوى شعارات مخادعة، يُراد منها شراء الوقت وتمرير خطة سياسية تقطع الطريق على الثورة، وتحول القضية السورية من قضية تحرر وتغيير جذري إلى مجرد ملف إنساني وإغاثي، بينما تبقى السيادة رهينة في أيدي القوى الخارجية.
خامساً: الاعتماد على واشنطن أو عمّان أو غيرهما من العواصم لن يضمن استقراراً ولا سيادة، بل سيزيد الارتهان والضياع، فكل تسوية تُفرض من الخارج تعني مزيداً من التفريط بمكتسبات الثورة، ومزيداً من تثبيت نفوذ المستعمر، ومزيداً من التضييق على المجاهدين والأحرار.
إن الحقائق مجتمعة تؤكد أن الاجتماع الثلاثي في عمّان ليس إلا خطوة على طريق فرض التطبيع مع الكيان المجرم، وإن لم يُصرح به مباشرة، فالحديث عن استقرار سوريا بمعزل عن طرد يهود من الأرض التي احتلوها في سوريا، عدا عن احتلالهم للأرض المباركة فلسطين، وتجاهل دماء الشهداء البدو والعشائر الذين سقطوا في السويداء وغزة على حد سواء، ليس إلا تهيئة للأرضية لتعايش مذل مع كيان يهود.
وعليه، يجب على أهل الشام أن يرفضوا هذه المؤامرات، وألا تنطلي عليهم شعارات "السلام والاستقرار" التي يرفعونها في الوقت الذي يغطون فيه على جرائم يهود، فالطريق إلى الأمن والسيادة لا يمر عبر واشنطن ولا عمّان، بل عبر التمسك بشرع الله، ثم الاعتماد على الأمة وحاضنتها الصادقة، واستكمال مسيرة الثورة حتى إسقاط كل وصاية أجنبية والعمل الصادق لإزالة كيان يهود من جذوره. قال تعالى: ﴿وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاء ثُمَّ لَا تُنصَرُونَ﴾.
فليكن واضحاً أن كل خطوة باتجاه الاستعانة بأمريكا والغرب، أو التساوق مع مساعي الأردن وكيان يهود لتفتيت سوريا، هي خيانة كبرى للثورة ولدماء الشهداء. وإن أول طريق النصر يبدأ بإعلان البراءة من كل مشاريع التطبيع، والالتزام الصادق بتطبيق شرع الله، والاعتماد على الحاضنة الشعبية الثائرة، فهي وحدها السند الحقيقي بعد الله عز وجل وقت الأزمات والشدائد.
--------
كتبه: الأستاذ عبدو الدلي (أبو المنذر)
عضو المكتب الإعلامي لحزب التحرير في ولاية سوريا
- التفاصيل
في زمن التحوّلات الكبرى، ليست الهيمنة العسكرية أخطر ما يُكبِّل الأمم، بل الاستسلام العقلي والنفسي الذي يُقنع الشعوب بأنها ضعيفة، ويُشعرها بأن التغيير رهين رضا العدو أو موافقة الداعم، فيُخدّر الطاقات ويشلّ الإرادات، فيُمكّن للاستضعاف بدل التمهيد للتمكين.
وهذا تحديداً ما يُراد ترسيخه اليوم في بلاد الشام، بعد أن تكسّرت قوى الطغيان وانهارت أركان النظام، وتقدّمت الثورة إلى قلب العاصمة، فإذا بالخطاب المسيطر يعود ليقول "نحن دولة فقيرة، نحتاج دعم الخارج، لسنا قادرين على إدارة أنفسنا...، نحن ضعفاء ولنكن واقعيين ولنقبل بالواقع"!
غير أن الأخطر من مجرد الشعور بالاستضعاف، هو أن يتحول ترويج هذا الشعور وتحويله إلى سياسة ممنهجة تُزرع في الوعي الجمعي لشلّ إرادة التغيير والنهوض.
فهذا النمط من الخطاب الذي نشاهده لم ينشأ من فراغ، بل يُراد له أن يُصبح قاعدة، تغذيه جهات داخلية وخارجية تخشى من وعي الأمة وتحررها وثقتها بقدرتها على التغيير. فكلما اقتربت الأمة من لحظة الإمساك بقرارها، وامتلكت أدوات النهوض، سارعوا لتذكيرها كذباً أنها "غير مؤهلة"، وأن "الواقعية" تقتضي التنازل، وأن "العالم لن يسمح الآن"، وكأنّه سيسمح لهم غداً أو كأنّهم يظنّون أنهم يخدعونه!
وهنا تتحول "المرحلة الانتقالية" إلى عقيدة سياسية جامدة، يتعطّل فيها المشروع، وتُجمد فيها الثروات، وتُكبل فيها القيادة بأوهام الحاجة والعجز، فتزرع الهوان الذي في نفسها في نفوس شعبها.
حين دخل رسول الله ﷺ المدينة لم يطلب الإذن من قريش، ولم ينتظر اعتراف الروم، بل أقام دولة، ووضع دستوراً، وربّى رجالاً، وخاطب الأمم... لأنه كان يحمل مشروعاً عالمياً مبدئياً منبثقاً من الوحي، فاستحق نصر الله.
أما اليوم، فمتى نُدرك أن مشكلتنا ليست ضعفاً حقيقياً إنما هي الوهم المصطنع؟
ومتى ندرك بأنَّ الحاضنة هي جوهر القوة؟
في سوريا، الحاضنة الثورية التي لم تُهزم، بل ما زالت قادرة على العطاء، هذه الحاضنة التي قدّمت أولادها وأموالها ودعمت الثورة في أحلك الظروف، ولكنها بعد سقوط النظام البائد تُعامَل باعتبارها مجرّد جمهور يُراد ضبطه لا تحشيده، يُستحضر حين الحاجة ويُقصى حين الخلاف، وتسعى الإدارة الجديدة للقضاء على روح الثورة والجهاد في نفوس الحاضنة.
متى ندرك أنَّ الدولة تُبنى بالحاضنة لا على حسابها، وبالمشروع لا بالتكتيك، وبقيادة صادقة مبدئية لا بحسابات المناصب والمرحلة؟!
إن من أهم ما يُقوّض النهوض الحقيقي هو أن يُختزل دور الناس في الصمت والانتظار، وأن يُختزل دور القيادة في التنسيق والتكتيك، فيغيب المشروع، ويتقدّم "الإجراء المؤقت" القائم على قاعدة "نحن ضعفاء" ليصير سياسة ثابتة.
إن النهوض لا ينتظر مؤتمراً دولياً، ولا يُصنَع القرار السياسي في قاعات الفنادق، ولا تستجدى الكرامة من عواصم الغرب. فالنهوض قرار ذاتي شجاع، والإقدام إيمان وثبات، والتمكين عطاء من الله لمن صدق وأخلص وثبت.
وهنا لا بد أن نقف لنُميّز بين من ضلّ الطريق تحت وطأة الواقع، ومن انتكس عن الثوابت تحت عباءة الواقعية، فالأول قابل للتصحيح بالحوار والمكاشفة، أما الثاني فمكانه على رصيف الإقصاء السياسي، لا في موقع القيادة.
فمن أراد تمكيناً حقيقياً، فليُعدّ عدته التي تتمثل بمشروع مبدئي، وقيادة واعية، وأمة مجندة، ونظرة إلى الله لا إلى واشنطن أو أنقرة أو الرياض، وثقة بالنفس لا انهزام داخلي وهوان.
فسوريا ليست ضعيفة ولا فقيرة، وهي غنية بثرواتها وطاقاتها المادية والبشرية: نفط، غاز، زراعة، موقع جغرافي نادر، وحاضنة معطاءة، ومع ذلك تُقدَّم على أنها منطقة منكوبة، وكأن الثورة ولّدت فقراً! بينما الفقر جاء من عقود النهب الممنهج على يد نظام أسد والذي ينبغي أن يُزال بزوال أسبابه لا بتلميعها أو الالتفاف حولها.
وهنا تعود على الدوام لتبرز أزمة القيادة الحالية التي تنظر للحاضنة الشعبية كحمل ثقيل لا كخزان قوة، وتحاول احتواء الناس لا الانفتاح عليهم، وكأن التمكين والعمل للتمكين مؤجل حتى إشعار دولي آخر لن يأتي!
إنّ الخطورة لا تكمن فقط في الخطاب الانهزامي، بل في تحوّله إلى مسلمات فكرية تُدرّس وتُكرر وتُشرعن في المؤتمرات والدراسات، حتى يُصبح النقد جريمة لمعارضته للواقع الفاسد وللواقعية التي تتخذ الرضا بفساد الواقع قاعدة لها، وحتى يصير البديل المبدئي طوباوية غير واقعية.
فما أحوجنا اليوم إلى خطاب صريح يحاكم الواقع ويقر بصعوباته ولكن لا يتكيف معه، يفتح أفق الأمة ولكن لا يسجنها في غرف التفاوض، خطاب يُنهي عقلية الانتظار والهوان، ويستبدل بها عقلية الإقدام والعزيمة، ويرفع سقف الثقة بالله لا بسفراء الغرب.
فالتمكين عندنا نحن المسلمين يأتي من الإيمان بالله لا بالأمم المتحدة. وما نعيشه اليوم هو لحظة نادرة في عمر الأمة، لا يجوز أن تُدار بعقلية المستضعف.
من امتلك الأرض، وحرّر العقول، وفضح المشروع الدولي، لا يجوز له أن يعود خطوة بل خطوات للوراء، لأنه بذلك يُفرّط بثمرة الجهاد، ويُعيد إنتاج النظام البائد بشعارات جديدة.
فالواجب ألا ننتظر اعترافاً دولياً أو معونة خارجية، بل نستنبط مشروعنا المنبثق من عقيدتنا، ونعيد اكتشاف ثرواتنا وطاقاتنا. ولا ينبغي أن نبقى في آخر الركب ننتظر قيادة توافقية ونصفق لدروشتها، بل نُفرز قيادة صادقة تحمل مشروعاً مبدئياً دون مساومة.
إن الثورة باعتبارها فكرة راسخة في قلوب الناس لا تزال ذاخرة بالطاقات، والحاضنة لا تزال تنبض بالإيمان، وما على أصحاب العزم إلا أن يشمّروا ويقودوها بصدق وثبات، فاللحظة لحظة نهوض، لا لحظة مساومة، والقرار يجب أن يُصنع هنا، على الأرض، لا هناك في غرف المساومات على يد المندوب السامي باراك!
- التفاصيل
لا شك أن الله عز وجل قد بين لنا طريقة العيش الصحيحة، فقال سبحانه: ﴿وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ﴾، وأوجب على المسلمين التحاكم لشرعته ومنهاجه، قال تعالى: ﴿وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ﴾، وجعل سعادة المسلمين مرتبطة بمدى تمسكهم بدينهم وأنظمته وأحكامه، قال تعالى: ﴿فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً﴾. فَالْحَذَرَ كُلَّ الحَذَرِ من أَنْ نَعْتَرِضَ عَلَى حُكْمِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ أَوْ أَنْ نُعْرِضَ عَنْهُ، فالله سبحانه وتعالى يحذرّنا نفسه، بقوله: ﴿يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ * قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾.
وإن جعل العقل مشرّعاً من دون الله إعراضٌ عن شريعته سبحانه ومزاحمةٌ له في ملكه. فأي دستور يتم وضعه يجب أن يكون منبثقاً من صميم عقيدة الأمة وممثلاً لها ومعبّراً عن تطلعاتها، لنكون بحق شاكرين لنعم الله ومعيته التي حملتنا إلى دمشق منتصرين، ولا يجوز أن يكون مبنياً على أساس وجهة نظر الغرب القائمة على فصل الدين عن الحياة والدولة والمجتمع وعلمانية الدولة التي لطالما أكد عليها الغرب الكافر في مؤتمراته ولقاءاته واجتماعاته الخاصة بسوريا.
فالدستور هو القانون الذي يحدد شكل الدولة وأجهزتها ونظام الحكم فيها، وصلاحية واختصاص كل جهاز، وهذا الدستور إما أن يكون مصدره الوحي، أي من خالق الكون والإنسان والحياة، اللطيف بخلقه والخبير بهم، العليم بما يصلح حياتهم وما يفسدها، وإما أن يكون مصدره العقل البشري. ولا شك أن الدساتير التي يكون مصدرها العقل البشري هي دساتير مضطربة تؤدي بأهلها إلى الشقاء وضنك العيش، لأن العقل البشري عرضة للتناقض والاختلاف والتفاوت والتأثر بالبيئة، ما يُنتج دساتيرَ تحملُ صفاته، وهذا ما يفسر اختلاف الدساتير بين مجتمع وآخر، وتغييرها أو ترقيعها بين الفينة والأخرى. ومن مكر الغرب بنا دأبه الشديد لفرض دستور وضعيّ مفصّل على مقاسه لتكريس هيمنته وسيطرته، بعد أن سلّط على رقابنا على مدار عقود حكاماً عملاء يحرسون له مصالحه ويمنعون نهضتنا حتى نبقى أذلة تابعين.
لقد أوجب الإسلام علينا أن تكون عقيدته هي أساس الدولة، وهي أساس الدستورِ والقوانين، أي المصدر الوحيد للتشريع، بحيث لا يكون معها مصادر تشريع أخرى كما في الدساتير الوضعية التي يقول بعضها بأن الإسلام مصدر رئيسي أو أساسي للتشريع بينما هي في حقيقتها تقتبس تشريعات علمانية غريبة عن ديننا وأمتنا، يصدرها لنا الغرب ويلزمنا بها ليرضى ونشقى. فحتى يكون الحكم إسلامياً والدولة كذلك لا بد من أن تتفرد العقيدة الإسلامية بأن تكون وحدها مصدر التشريع، بذلك فقط نستطيع القول إن الدستور إسلامي، وأما غير ذلك فهو سير في ركاب الدول وما تقرره لنا من تشريعات وما تفرضه علينا من إملاءات، ولطالما قلنا إن رضا الله الذي أمرنا بتطبيق الإسلام ورضا أمريكا التي تطالب بمحاربة الإسلام ضدان لا يلتقيان.
وإن تشريعات الإسلام ودستوره وأحكامه لا يمكن جعلها موضع التطبيق إلا عبر دولة ونظام، وإن نظام الحكم في الإسلام نظامٌ فريد متميز، يعبر عن هويتنا وحضارتنا وعزة إسلامنا، العزة في تطبيقه بشكل جذري انقلابي شامل في الحكم والسياسة والاقتصاد والعلاقات الدولية والمعاملات والمعالجات، والذلة والشقاء في إقصائه وتغريبه. لا يجوز أن يكون نظاماً جمهورياً يكون التشريع فيه للبشر من دون الله، ولا يجوز أن يكون ملكياً أو إمبراطوريا أو غير ذلك، لأنها أنظمة وضعية نهبت البلاد وأشقت العباد ونشرت في الأرض الفساد، فلا أمن للمسلمين ولا عزة ولا هناءة عيش إلا عبر نظام حكم يرضي الله ورسوله، به نعز ونرقى وبغيره نذل ونخزى، إذ لا يليق بنا أي نظامٍ علماني يُطرح أو يُفرض علينا يُسخِط اللهَ ويشقي العباد، حتى ولو كان مُجمَّلَ الوجه مُزكّىً من القنوات الفضائية المسيّسة، وحتى لو تمسّح بذكر الإسلام ما دام مضمونه هو الديمقراطية والحكم بغير ما أنزل الله. قال تعالى: ﴿وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللهُ إِلَيْكَ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ * أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ﴾. فعندما حكمَنا الإسلامُ وحكّمناه في كل شؤون حياتنا، وأحسنّا تطبيقه، كنا سادة الدنيا بلا منازع، وعندما أسأنا تطبيقه وتخلينا عن أحكامه وقوانينه وتشريعاته أصبحنا غثاء كغثاء السيل، تداعت علينا الأمم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها، وبتنا مستضعفين، ينهب الأعداء خيراتنا ويستعبدوننا ويتحكمون في طريقة عيشنا وشكل حياتنا ورسم مستقبلنا عبر دساتير وضعية سقيمة ليس من ورائها إلا الذل والمهانة وشظف العيش.
لقد قدم أهل الشام على مدار أربعة عشر عاماً التضحيات الجسام، فداءً لدينهم وأمتهم وأرضهم وعرضهم. وإنه لا يكافئ هذه التضحيات التي بذلت والدماء الزكية التي أريقت إلا تطبيق الإسلام وتشريعاته في كافة نواحي الحياة، عبر دولة عز وقوة ومنعة، تحمل لواء الإسلام ويقودها رجال الإسلام. فمن يمثل تطلعات أهل الشام بحق هو من يعمل لتطبيق ثوابت ثورتهم ويرفع لواء نبيهم ﷺ ويعلي راية هويتهم وحضارتهم وعزة إسلامهم؛ يمثلهم بحق من يحكمنا بدستور الإسلام المنبثق من عقيدة الإسلام لا من عقيدة المبدأ الرأسمالي العلمانية الذي أشقى أهله قبل أن يشقينا؛ يمثلهم من يضع رضا الله سبحانه قبل كل رضا ويضع تطبيق شرعه أول الثوابت، وهذا ما جاد أهل الشام بفلذات أكبادهم لأجله.
وإننا نذكّر المسلمين عموما وأهل الشام بشكل خاص؛ بأننا في حزب التحرير نقدم لهم مشروع دستور مستنبط في جميع مواده من الكتاب والسنة، وما أرشدا إليه من إجماع الصحابة والقياس الشرعي المعتبر، يبين شكل الدولة التي بينها لنا شرعنا، وحدد لنا أجهزتها، وصلاحيات هذه الأجهزة، حتى لا يبقى ما نسعى إليه مجرد شعار، أو مطلباً عاماً، بل هدفاً محدداً نسعى إليه على بصيرة بطريقة شرعية مستقيمة. وهو ليس دستوراً لدولة قطرية أو وطنية أو قومية، بل هو دستور لدولة المسلمين. وإننا نسعى لأن يوضع هذا الدستور موضع التطبيق العملي في دولة الخلافة الراشدة على منهاج النبوة التي بشر بعودتها رسول الله ﷺ بقوله: «ثُمَّ تَكُونُ خِلَافَةً عَلَى مِنْهَاجِ النُّبُوَّةِ»، دولة تكون رئاسة عامة للمسلمين جميعاً، لا تعترف بحدود وطنية أو قطرية خطها الكافر المستعمر بيديه الآثمتين، دولة تجمع شتات الأمة وتوحد قوتها، وتعيد لها قدسها وأقصاها، نسأل الله أن يكون ذلك قريباً. قال تعالى: ﴿وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ﴾.
---
كتبه: الأستاذ ناصر شيخ عبد الحي
عضو المكتب الإعلامي لحزب التحرير في ولاية سوريا